العقل ووجود الخالق


الكاتب: جابر اليوسف -

العقل ووجود الخالق

العقل لا يلغي وجود الخالق

المقدمة

الانسانُ والكونُ بكواكبه ومجراته وكلُ الاشياء المنظورة والمحسوسة وتلك التي يمكن تصورها أو إدراكها، كلُ ذلك صُوّر وخُلق بدقة متناهية قاهرة قد لا يحيط بها العقل البشري الإحاطة التامة. غير انه يدرك تماما أن كل ذلك خُلق (تكوّن) بمقدارٍ وقدرٍ موزونٍ ضمن قوانين منضبطة وصارمة وأنه مسيّر ضمن تلك القوانين، بعض هذه القوانين ادركها الانسان وفسّر على ضوئها طبيعة الكون.

معنى الكون

الكون لغة هو اسم لما يحدث دفعة واحدة مثل حدوث النور بعد الظلام مباشرة.

وفي لغة الفلك هو عالم الموجودات التي لها مكان وزمان في الفضاء. وعلم الكون هو علم يبحث عن العالم من حيث قوانينه و التي بمقتضاها يسير.

إن كل المؤشرات والحقائق العلمية التي استنبطها واستنتجها العقل البشري تؤكد بأن كل ما في الكون عبارة عن مادة وطاقة باختلاف اشكالها وطبيعتها لها نقطة بداية ، (ولدت بعد الانفجار العظيم كما يزعم علماء الفيزياء الكونية) .ومع ذلك بقي العقل البشري في حيرة من أمره فأخذ يبحث عن الإجابة عن كثير من الاسئلة. متى بدأ؟ ومتى ينتهي؟.. كيف نشأ و تكوّن؟ وممن يتكوّن؟والى اين يتجه؟الخ. والسؤال الاكثر غموضا ماذا كان قبل تكوين الكون؟

الإجابة على التساؤلات المطروحة

للإجابة. على هذه التساؤلات لابد ان نتذكر العلاقة بين الكثافة والكتلة والحجم .فمن مفهوم الكثافة الكتلية لأي مادة يمكنني ان استنتج انه كلما قل حجم كتلة معينة ازدادت كثافتها بمعنى اقتربت مكوناتها الى بعضها البعض وحين يصبح الحجم مساويا للصفر تصبح قيمة الكثافة كمية كبيرة جدا جدا (ما لا نهاية) لقد اقتربت مكونات المادة تلك من بعضها البعض واصبحت في تنافر عظيم جدا جدا وحين اصبح الحجم صفرا اصبحت كتلة المادة في هذه الحالة تساوي صفرا (الكتلة = الكثافة × الحجم) لكنها ذات محتوى طاقي هائل جدا جدا (من خصائص المادة انها تمتلك طاقة كامنة). نستنتج من هذا الكلام ان المادة اصبحت في حالة العدم (وهو ليس مصطلح العدم المتعارف لدينا).

ولما كان الزمن مقترن بحركة وسكون المادة، هذا يعني ان الزمن هو الاخر معدوم اذن يمكن القول بوضوح ان ما قبل المادة هو العدم وان ماديات الكون جاءت من العدم. اذن للكون بداية وقوانين الفيزياء المادية والكمية تؤكد حقيقة ذلك. ومن نقطة بداية الكون بدء الزمن فما هو اول مكون مادي ظهر للوجود؟فليس معقولا ان ماديات الكون قد تَكوّنت دفعة واحدة فالأرض والكواكب والاجرام والسماوات والماء لم تخلق دفعة واحد .(رغم انها موجودة في عالم العدم كما سيتضح ذلك فيما بعد). وعلم الفيزياء يخبرنا بين الحين والاخر بولادة نجم او موت نجم.وليس معقولا ان هذا الكون ازلي لا بداية له.(العقل يرفض ان يكون الكون نشأ دفعة واحدة وفي نفس الوقت يكون عاجزا لتقديم ادلة علمية او منطقية على ان الكون ازلي لا بداية له.).لذلك ينبغي وجود جسيم مادي اساسي متناهٍ في الصغر اعطى لكل مكون من مكونات الكون صفاته وخصائصه. فالمادة او (الكتلة والطاقة) لا تفنى ولا تخلق من عدم (والفناء والعدم ليسا كما نفهما بالمعنى الاصطلاحي الفيزيائي ذلك المتضادان لمعنى الوجود كما سيتضح لاحقا)

لقد كان حجم العالم المادي قبل ان يظهر للوجود مساويا للصفر كما أسلفنا.وحين أُتيحت له أسباب التمدد، توسع فأصبحت قيمة الكتلة اكبر من الصفر (على ضوء العلاقة بين الكثافة والكتلة والحجم السابقة). لكن هذا التوسع لابد وأن يرافقه طاقة هائلة جدا جدا. إذن بعد لحظة توسع الحجم مباشرة ظهرت حالة تسبق المادة هي الطاقة. (وهي تختلف بطبيعتها عن خواص المادة). فمن اين تكونت المادة اذن؟.لابد ان هناك مكوّن جمع بين خصائص الطاقة وخصائص المادة تكوّن بعد ظهور الطاقة العظيمة مباشرةً. و المكون الذي جمع بين صفات الطاقة وصفات المادة والذي تم اكتشافه في القرن الثامن عشر هو الالكترون والذي يمتلك شحنة سالبة ووفق قانون المتضادات لابد من وجود مكوّن آخر وهو (مضاد الالكترون) بعدهما تكون البروتون والنيوترون (وهما جسيمان ماديان فيمكن ان تتحول الطاقة الى كتلة والعكس صحيح ايضا كما يقرّه علم الفيزياء) بأعداد مذهلة وبإحصاء دقيق خارج ادراك وتصور العقل البشري.وهنا ينطرح امامنا سؤال يبعث على الحيرة والذهول وهو كيف آلت هذه الجسيمات العاطلة الى جسيمات عاملة؟ كيف ترتبت لتنتج الذرات؟ كيف استطاع البروتون ان يستقر في حيّز ليدور حوله الالكترون بمدارات غاية في الابداع والدقة والنظام؟ لتتكون ذرة الهيدروجين من بروتون واحد يدور حوله الكترون واحد يليه مباشرة ذره الهليوم وهكذا دواليك بقية الذرات (التي يتضمنها الجدول الدوري الحديث). يمكننا الان القول أنَّ عالَما ذريا قد ولد كاملا متكاملا.بنظام ذري غاية في الغموض والابهام والتعقيد تحت سيطرة قوى كهرومغناطيسية وتجاذب وتنافر بين جسيمات الذرة كما تشير اليه قوانين الفيزياء.

ان آخر ذرة اكتشفها الانسان في الارض هي التي تحتل العدد الذري 118 نواتها تحتوي على 118 بروتون و 196 نيوترون يدور حولها 118 الكتروناً بمدارات غاية في الدقة والتعقيد والضبط وعند توزيع الكتروناتها على اغلفتها نجد أن هناك سبع اغلفة الكترونية رئيسية.وأن الالكترون الاخير واقع ضمن الغلاف الثانوي نوع 7 p6 تحجبه عن النواة 117 الكتروناً عبارة عن سحابة رهيبة من الشحنات السالبة ومع ذلك يبقى بمداره دون ان ينفلت او يهرب بالرغم من سرعته الفائقة.فهل ان جذب النواة للإلكترون مازال قائما ام ان هناك امر اخر.

وقد يتساءل العقل هل تتكون مثل هذه الذرات لو اننا تركنا مليارات الالكترونات ومثلها من البروتونات والنيوترونات في مكان ما ولفترة طويلة جدا من الزمن جيلا بعد جيل بعد ان نوفر الاسباب التي إعتقدها العلم البشري؟

ويبقى العقل البشري اكثر جدلا ليطرح تساؤلاته. ما سرُّ اختلاف الذرات و تباينها والتي بها خُلِقَ الكونُ بكائناته الحية والميتة؟ لماذا لم تكن هذه الذرات فقط ذرات هيدروجين مثلا؟ الفيزياء تخبرنا أنه من الممكن أن تندمج ذرتي هيدروجين اذا تهيئت لها الظروف لتتكون ذرة الهليوم، هذا يعني الطاقة الهائلة مازالت بأوج عظمتها لتتفاعل ذرات هيدروجين أُخرى مع ذرات هليوم لتنتج ذرات ليثيوم. والهليوم يتفاعل مع الليثيوم لينتج البورون وهكذا تتكون ذرات جديدة.سأطلق عليه اسم عالم الذر. ثم اتيح بعد توفر الاسباب ان يتحد نفس النوع من الذرات بقوى لتتكون ذرات مركبة او جزيئات تمتلك كل جزيئة خواص ومميزات تختلف عن خواص ومميزات جزيئة أخرى.

وبالتالي ظهرت الخواص الفيزيائية والكيميائية لكل مادة سواء كانت حية او ميته.واصبح لها وجود ومكان وزمان وحدود.

هنا يستوقفنا سؤال خطير غاية في الابهام والغموض، وهو حين توسع (تمدد) الحجم بمعنى اشغل مساحة.ما كيفية وطبيعة هذا التمدد؟ هل ازاح شيئاً ما ام توسع في فراغ؟

وللإجابة على السؤال علينا اولا ان نوقف عمل الرؤية (البصر) كي لا تملي علينا تساؤلات تشوش رؤانا واستنباطات العقل.علينا ان نوقف العمل مؤقتا بقوانين الفيزياء المادية كي لا تتقاطع مع تلك الرؤى والاستنباطات. (رغم انها لا تتقاطع مع حقيقة ما سوف يستنبطه العقل)

إن التمدد او التوسع هذا لم يكن على حساب شئ اخر ولم يتمدد في فراغ.بل ان الحجم الذي ذكرنا انه مساويا للصفر هو نفس الحجم الموجود في العدم وهو نفس حجم الكون الذي نراه والمتمثل بالحيز الذي بيننا وبين ما يسمى بالسماء وكذلك الذي لا نراه من سماء. وبالتالي فلايوجد معنى للتمدد او التوسع إلّا في مفهوم البشر فما يتكون من مادة هي اصلا موجودة في عالم العدم وتحولت الى عالم الوجود .

مما سبق نفهم ان هذا الكون (المادة) قد جاء من العدم أصلا.. فكيف نفهم وندرك ونتصور ذلك؟ نعم يمكننا ذلك، إذا أدركنا وفهمنا معنى حقيقة العدم حينها سيزول الغموض والابهام.إن هذا الادراك وهذا الفهم هو نسبي بين عقول البشر، وحين لا يمتلك العقل هذا الادراك وهذا الفهم فمن الطبيعي ان يرفض تلك الحقيقة ولا يؤمن بها ولا يستيقن وهذا الصنف من العقول لا تستطيع ان تستكمل معها الحديث عما تريده وتصل اليه.

معنى العدم

إن العدم هو ايضاً حقيقة موجودة وليس فراغ لكن خارج الادراك الحسي والتصور العقلي فنحن نفهم العدم بانه (لا شيء) وهذا فهم ساذج.دعني اضرب لك مثالا لتقريب الصورة فقط ، البلورات التي تظهر عند ترك محلول معين في عملية تبلور، فالبلورات كانت أصلا ضمن المحلول وبظروف معينة ظهرت وأصبح لها وجود مكاني خارج المحلول.فكذلك المادة هي كانت في حالة العدم وحين أُتيحت لها الظروف ظهرت واصبح لها وجود وحدود .

دعني أضرب مثالا آخر.. الطفل المولود حديثاً جاء للدنيا بعد ان أُتيحت له ظروف معينة بينما قبل تلك الظروف كان غير موجود ضمن تصورنا الحسي. غير أنه بالحقيقة هو موجود لكن في عالم العدم.ربما هنا يطرح احدهم سؤالاً وهو اذا سلّمنا بحقيقة العدم فأين توجد هذه الحقيقة؟

قبل الاجابة دعنا نأخذ المثال الاتي: لنفترض انك فنان وقد صنعت تمثالاً لأسد، مثلا. فبالنسبة لي وضمن تصوراتي الحسية أن تمثال الاسد موجود ضمن حدود مكانية وزمانية محددة ومعلومة.اما بالنسبة لك كفنان فالأسد موجود في عالمين عالم الوجود المادي الحسي وهو انك ترى وتلمس تمثالا حقيقياً للأسد ووجود اخر لكنه ضمن ادراكك العقلي هذا الوجود الذي ضمن ادراكك العقلي يسمى عالم العدم بالنسبة لي لا بالنسبة لك.

فلو انا قمت بتحطيم و سحق تمثال الاسد سينتهي الوجود المادي للأسد بالنسبة لي ولك ايضا , الا ان وجوده في ادراكك العقلي مازال قائما وتستطيع اعادة صناعة التمثال فانت تدركه اما انا فلا استطيع ان ادرك ما يدركه عقلك.(نعم لدي

فكرة مستنتجة او مستنسخة عن صورة الاسد لكن لا استطيع ان اجسد وجودها المادي لافتقادي مستلزمات ذلك)

الوجود والعدم ليسا متضادين

اذن الوجود والعدم ليسا متضادين و يمكن ان يجتمعان معا، وممكن ان يسبق أحدهما الاخر فالعدم سبق او يسبق الوجود المادي والعكس صحيح ايضا

نخلص الى أن العدم والوجود المادي كلاهما في مكان واحد فالمعدوم شيء معلوم وإن لم يكن مذكور فالأسد كان فكرة متبلورة في عقلك (عالم العدم اي غير مذكور بالنسبة لي) ثم صارت وجود مادي محسوس بالنسبة لي ولك حين صنعتها تمثالا

وكذلك الطفل المولود في مثالنا السابق كان موجود في مكان واحد فهو فكرة متبلورة في عالم العدم غير مذكور بالنسبة لنا لا يُعرف و لا يُذكر و لا يَدري من هو و ما يُراد به بل يكون معدوما ثم يوجد في صلب أبيه ثم في رحم أمه إلى وقت الولادة ثم صار وجود مادي محسوس بعد الولادة.

المكان واللا مكان

بحدود تصوراتنا العقلية وادراكنا المادي وكما ذكرنا ان المكان مقترن بوجود المادة فحيثما كانت المادة كان للمكان معنى ووجود ويمكننا تحديده فالسموات والارض وكل الاجرام والمجرات التي يعرفها الانسان والتي لا يعرفها نستطيع تحديد مكانها نسبة الى الاخر فاستطيع تحديد السماء مثلا عندما اكون على سطح الارض انها الى الاعلى مني لكن لو خرجت من على الارض الى الفضاء فلا استطيع تحديد اتجاه السماء حيث سأراها من جميع الاتجاهات. اذن لو طُرح سؤال، اين السماء؟استطيع ان أُجيب عليه عندما اكون على الارض او على كوكب اخر أما عندما اكون خارج الارض فلا استطيع الاجابة كوني ارى السماء من جميع الاتجاهات.

اما اللامكان فهو حقيقة (ليس عدم وليس فراغ) طالما المكان حقيقة موجودة، لكن اللامكان حقيقة غامضة لا يمكن ادراكها وفق قوانين المكان .فهي لا تقترن بالمكان ولا المكان ان يقترن بها .في المكان هناك مادة وزمن بينما في اللامكان لا توجد مادة ولا يوجد زمن ولا توجد حدود. اللامكان حقيقة بلا زمن بلا بداية بلا نهاية حيث تنعدم فيها كل اشكال المادة، وتصعب كل التوصيفات والتصورات، فلا يستطيع العقل البشري من الاشارة اليه أو وصفه أو تحديده .

ولما كان المكان يقترن بوجود كائن مادي لابد ايضا ان يقترن اللامكان بوجود كائن غير مادي، بلا زمن ، بلا مكان، بلا حدود، بلا بداية بلا نهاية، بلا موجد اوجده .غير مسبوق بالعدم. له قدرة خارقة وارادة عظيمة في الخلق والابداع والتحكم بصير بالكون قبل وجود الكون ثم اوجده بإرادته دون فكرة رددّها او تجربة اجراها، فالكون كله داخل تحت فيض إرادته فهو مع كل جزيئياته لكن ليس قرينا لها.يفعل ويغير دون حركة منه او آلة.

تأمل ما أثمرَ مَنْ استكملَ عقلُهُ ادراكا وفهما لحقيقة العدم من قولٍ حيث يقول الامام علي بن ابي طالب عليه السلام

[وان الله سبحانه وتعالى يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عدمت عند ذلك الاآجال والاوقات وزالت السنون والساعات فلا شي الا الواحد القهار، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه اليها ولا استعانة بشي منها عليها]

فُنيت الدنيا (ضمن تصورنا وفهمنا لفناء المادة) لكن أعاد الدنيا بعد هذا الفناء كل ذلك بفعل الارادة العظيمة الخارقة.والارادة هي ليست كما نفهمها بالاصطلاح البشري انما هي (نفسُ إيجاد الفعلِ وعَيُن يقينه) فاذا فهمنا وادركنا معنى الارادة حينها ستنبلج لنا انواراً لتزيل الظلمة وان ندرك يقينا ان لهذا الكون خالق هو الله.

سندرك يقينا اننا في فيض من الإرادة الإلهية واننا موجودون في هذا الفيض قبل ان يوجد البشر.وبعد وجود البشر انتقلنا من صلب ورحم الى صلب ورحم حتى صرنا وجوداً مادياً يطلق عليه انسان.

وحين نموت (نطلق عليه اصطلاحاً الموت او الفناء) وما هو بموت ولا فناء انما هو نقطة نهاية وجود مادي الى نقطة بداية وجود مادي اخر لا نعرف خصائصه وصفاته لكنه لا نهاية له ; وسنجد كل ما عملناه من خير او شر حاضراً.







رائج



مختارات