تصنيف الأدباء ومرحلة الوعي النقدي
وممّا يسوء أسماعي، وتشمأز منه النفس حديث العوام عن تصنيف الأُدباء، فيقال في المجالس الأدبية، وفي المحافل الشعرية، وفي الجلسات القهواتية أحيانًا: إن الأدباء شيوعيون، وإسلاميون، وبعثيون، ووسطيون، وملحدون، وأكاديميون، وشيعيون، وسنيون، وقد برز عندنا مصطلح جديد (الأدباء الذيول)، بل يتم الحكم على أن اتحاد الأُدباء (اتحاد الجواهري)، واتحادات المحافظات العراقية قائمة على هذا التصنيف!
وهذا التصنيف غير منطقي، مرفوض في أصله، وتكوينه، ووجوده، أي لا مصداق له في الواقع، غير الرمزية التي تحفل بها العقلية الإقصائية عندنا، لأسباب أرغب بذكرها تباعا.
فلست بمعترض على الأس الابستيمي لمقولة التصنيف، والتنميط، التي تتساوق كثيرًا مع مفهوم التجنيس، والتنويع، ولست بمستنكرٍ استعارتها من علم الكائنات الحية، بل أستنكر عدم دقة توظيفها؛ إذ يرى علم الكائنات الحية (الأحياء) الهرميةَ في التسلسل، فلو سمحت المنظومة النقدية بالتصنيف الذي يخص (الشعراء)، فيما ذكرته من شيوعي، وإسلامي، وملحد، وذيل، لوجدنا سُلَّمًا في أقل تقدير يتضمن وجود النوع، والجنس، والفصيلة، والرتبة، وهكذا ممّا لم يتوفر في إقرارنا لتصنيف الأدب، والأدباء، وليس عندنا مقولة نقدية تتضمن تلك التصنيفات، وإنما عندنا نظرية التجنيس، والتنويع الأدبي، وقد بدأت تضعف في العصر الحداثوي اليوم، إيمانًا بتماهي الأجناس.
ثم الحجة الأخرى، هل أجد عند أولئك الشعراء الشيوعيين، أدبًا شيوعيًا صِرفًا؟ أو أدبًا شيعيًا صِرفًا؟ أو أدبًا أكاديميًا صِرفًا؟ أو أدبًا بعثيًا صِرفًا؟ فمتى ما وُجِد ذلك، دخل أدبُهم في رفِّ الأدب الملتزم، وارتكز على مقولةٍ فلسفيةٍ مهمةٍ: إن الأدب للحياة، وليس للأدب، ولا يقتنع أديب شيوعي، ولا بعثي، ولا إسلامي، ولا صعلوك إلا بمقولة الأدب للفن، وإذاعة الوجدان، والإغراق في الذاتية في الكتابات الشعرية بعد انتهاء مرحلة التجييل الشعري، ولاسيما في مرحلة تشظي الهُوية بعد سقوط النظام السابق.
هذا فضلًا عن أنَّ تصنيف الأدباء إلى شيوعيين، وإسلاميين، وبعثيين، ووسطيين في اتحاد الجواهري، وغيره لم يأت على حساب المفهوم، والموضوع الشعري، والمحتوى القضوي لشعرهم، أي لم يأت على وفق (اللوغوس)، بل جاء على أساس الخارج النصي، (الايتوس)، وجانبه الأخلاقي، وهذا ميتا فكري شعري، وميتا آيديولوجي شعري لا دخل له بالنتاج الشعري، فتكون التسميةُ الأنسب الشيوعيون الأدباء، والبعثيون الأدباء، والإسلاميون الأدباء، والأكاديميون الأدباء، وهكذا مما يقره الواقع، فعندنا شعراء من هذا النوع في خلفياتهم الثقافية، والفكرية، ويقترب شعرهم بالمادة، والصياغة، والموضوع بنسب عالية، لا يكتبون إلا للمرأة، والخمرة، والوطن، والمدينة، والثورات، وغير ذلك، مما يستثنى منهم شعراء، كتبوا لرموز السلطة، وليس للسلطة نفسها، أو لفلسفة السلطة.
ثم كيف تصمد رؤية التصنيف أمام التحولات في الخطاب الشعري؟ كثيرون أولئك الشعراء الذي لعبوا على وتر التحول الفكري، والتعكز على ربح الصياغة، والحرف، يندر من بقي في ثبات منهم، فقد تحول السياب في أكثر من مرحلة شعرية، وتحول خزعل الماجدي في أكثر من مرحلة، ولا يخفى علينا تحولات العظيم الجواهري! وغيرهم مما أخشى من ذكر اسمه من الأحياء، الذين تربطني بهم صلة طيبة، فقد تنقلوا من مرحلة إلى مرحلة، ويرجون لو وقعت بيدهم تلك أشعارهم؛ ليرموها بشط الفرات حتى تموع الصحيفة، ومديدها، إعلانًا للتوبة، وتنويهًا للهروب؟
أن يكتب شاعر عراقي عن قضية ما كتابة عابرة، مرة أو مرتين، لا يرقى دليلًا على تصنيفه شيوعيًا أو بعثيًا، أو إسلاميًا، فلا داعي لأن تنتقل دعوى الحصبة في المجتمع، ودعوى الأدلجة إلى أمراء الكلام، علمًا أن التصنيف الشعري وارد جدًا في الفضاء النقدي العربي، بحسب بعض المعايير، ومنها معيار العصور، فصُنف الشعر، والشعراء إلى جاهليين، وصدر الإسلام، والأمويين، والعباسيين، والأندلسيين، وقد يكون تصنيفًا تعليميًا، ومدرسيًا، لا يشفي الغليل. كما شُفي في تصنيف الشعراء إلى طبقات في العصر الجاهلي، فقد انماز الشعر العربي القديم بوجود الطبقة الأولى، والطبقة الثانية، والثالثة، والرابعة على وفق معيار بلاغي، وجمالي، وصياغي، وتعبيري، أي على أساس معايير الشعرية، وليس على أساس الشكلنة، وتوجُه الأديب، وقد لا تصمد فكرة الطبقات التي جاء بها ﭐبن سلَّام أيضا في النقدية الحديثة، لأن ليس عندنا شاعر أشعر من شاعر آخر.
وقد يضع لنا الوعي النقدي تصنيفا ثالثًا للشعراء على أساس الموضوع الشعري، ومنهم شعراء العقيدة، وشعراء الصعاليك، وشعراء الإسلام، وشعراء الزندقة، وشعراء الفلاسفة، وهكذا، مما يدخل في حيز القراءة النقدية، وفي حيز المرحلية المتباعدة، فشعراء الصعاليك مثلًا بعيدون عن وقت شعراء الزندقة، والإسلام، ولا وحدة موضوع بينهما كي يتباروا، ويصنفوا تصنيفًا لا يقاس عليه.
الذي عليه الدارسون أن فكرة الطبقات، والتصنيف جاءت في مذهب من مذاهب الشعر، وكأنها تشبه المسابقات الشعرية، فقد يرتب الشعراء على مراتب حينما يكتبون بموضوع واحد.
الذي أريد قوله إن فكرة التصنيف مزعزعة، وغير ثابتة، ومحل أخذ ورد، وليس لها مصداق نصي حقيقي، وفكرتها معتمة، لا تتجاوز بوتقة السخط الأدبي، الذي يقوم على سلبية الشحنات، والدلالات لكل مفهوم، فقد ننظر بعين الرضا إلى اتجاه، وننظر بعين السخط إلى اتجاه آخر:
وعينُ الرِضا عن كل عيب كليلة ولكن عينَ السخطِ تبدي المساويا!
ولا أبالغ في ذم الأدباء الذين يصنفون بعضهم، ولا أقسو عليهم كما قسي الحبيب الأديب سعد سباهي، إذ كتب مقالا بعنوان (الأستاذية)، ينتصر فيه للأدباء الأكاديمين، وينتقص من تصنيف الأدباء إلى أكاديمي وغير أكاديمي، ويصب زعله على الواقع الأدبي الذي يهمش الأدباء الأكاديميين، فيقول: ((سرى هذه الأيام وعلى ألسنة البعض من سفهاء القوم، وصغارهم إسداء الطعون لعناوين الإبداع والثقافة هنا في مدينتنا وتحت فهم ساذج لمعاني الألفاظ العربية أو الوافدة، والتي أصبحت معرفتها الآن من لوازم حتى الأميين وليس بالضرورة أن تكون من قياسات المثقف أو المتعلم ظنا منهم أن النعت ب (الأكاديميين)، أو ب(الأستاذية) هو مما يلحق الإساءة والانتقاص"(1).
ولا ألدغ، ولا أجرح من الرسائل التي توجه إلى الأديب العراقي، وهي صادرة من ذوي شأن، لترعى هذا التنميط، وهذا التصنيف، وقد جار بعض منا علينا في أغلب السلوكات، والتعاملات، بالنظر إلى هذا أكاديمي، وذلك غير أكاديمي. ختامًا أقول: الأدبُ عصيٌّ على التصنيف، الرفعةُ فيه للنص
- تحت سماء المدينة: 75
أ.د خالد حوير الشمس
ناقد وأكاديمي