ما أنواع الأدلة القرآنية؟


الكاتب: غفران اليوسف - - عدد المشاهدات: 1041

ما أنواع الأدلة القرآنية؟

أنواع الأدلة القرآنية:

النوع الأول: الأدلة الحسية أو الكونية

وهذا النوع الذي يستخدم فيه القرآن الكريم الكائنات للتدليل على وجود الله تعالى ووحدانيته وسعة قدرته وعظيم حكمته، والقرآن الكريم يتخذ كل شيء في الكون دليلًا له خاصة وجود الكون من العدم، وانتظامه على قوانين مطردة، ونواميس محكمة، وقيامه على غاية التدبير، والتكامل بين أجزائه، والعناية بما فيه من عجائب الأشياء والأحياء.

وفي كل هذا يتجه القرآن الكريم إلى الإنسان مخاطبًا قلبه وفكره، ومطالبًا أن يتأمل بحسه هذه الموجودات، الحواس كما نعلم السمع والبصر واللمس والشم إلى آخره، مطالبًا أن بتأمل بحسه هذه الموجودات؛ لينتقل من ملاحظاتها في أوضاعها المختلفة إلى ما وراءها، ليدرك من هذه المقدمات الحسية البدهية نتائجها القطعية؛ فيعلم أن لهذا الكون ربًّا موجدًا، وإلهًا واحدًا مطلق القدرة، والإرادة واسع العلم والحكمة، وبذلك يدور الدليل بين السمع والبصر والفكر والنظر والمقدمات البدهية القريبة، والنتائج السهلة المسلّمة.

وهذا النوع على سهولته ويسره هو أقوى أنواع الأدلة، وهو أقربها إلى القلوب والنفوس وأعظمها في التأثير والإقناع لدلالته على المطلوب بذاته؛ ومن أقصر سبيل، وبخلاف أدلة الفلاسفة والمتكلمين التي تدل على المطلوب دلالة ناقصة، وتحتاج مقدماتها إلى برهنة واستدلال في الغالب، بل قد تحتاج النتائج نفسها إلى دليل آخر خارج عنها؛ مما يعقد الاستدلال لطول مقدماته، وكثرة وسائطه، وصعوبة طرقه على أكثر الناس، وذلك كاستدلالهم بحدوث العالم على أن له محدثًا، ويستدلون على حدوث العالم بتقسيمه إلى جواهر وأعراض، ثم يثبتون حدوث كل منها بمقدمات طويلة، وكل هذا ينتهي إلى أن للعالم محدثًا، وهذه نتيجة ناقصة لأنها لم توصلنا إلى: من هو المحدث؟ من هو الفاعل؟ وهذا يحتاج إلى دليل آخر لإثباته خارج عن نطاق علومهم وضروب منطقهم، ولكن القرآن العظيم يطوي هذا الشتات، ويضع الإنسان أمام حقائق الكون مباشرة؛ ليوقن بنفسه أن الذي أبدع هذا الكون ونظمه إله واحد، وأنه -سبحانه وتعالى- رب العالمين الذي صدّق المرسلين فيما بلغوه عنه -جل شأنه- ولذلك يحث -سبحانه وتعالى- عباده على النظر في الكون جملة أولاً: "َوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ الله مِنْ شَيْءٍ"(النساء:185)ويأمر -سبحانه وتعالى- بالنظر في دقائق هذا الكون: "قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ"(يونس:101) ويلفت حواسهم وقلوبهم إلى عجائب هذا الكون الكلية والجزئية فيقول سبحانه: "أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ *وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ *وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ" ق:6-10.

عندما ننظر إلى هذه الآيات نجد أنها تسجل عجائب في سطور معدوادات يقول تعالى "أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ" فهذا هو الكون العلوي "فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا" بناء ضخم كبير شاسع الأركان والآفاق: "وَزَيَّنَّاهَا" فهو لم يخلقها فقط، وإنما جعلها مليئة بالزينة والجمال "وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ" تتصدع منها: "وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا" أمام أعين الناس "وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ"[ الجبال التي جعلت حركتها لا تضطرب ولا تمور "وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" الله -عز وجل- حين أنبت النبات جعله ملوّنًا، جعله له رائحة عطرية، جعله جميلًا مبهجًا كما قال ]مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ[(ق:7- 8)”كل عبد“ موجه إليه هذا الخطاب ليس للجموع ليس للشعوب برمتها، لا، إنما لكل عبد عبد، ولكل فرد فرد، رجلًا كان أو أنثى يخاطب بهذا الحق الإلهي: "وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً" هذا المطر الذي ينزل فيحي الأرض بعد موتها: "فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ" جنات فيها الفواكه المتعددة، "حَبَّ الْحَصِيد" القمح وأنواع الحبوب الأخرى التي عليها معاش الناس، "وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ" هذا الثمر الذي جعله الله آية من آياته في الخلق -سبحانه وتعالى- فكل هذا دليل حسي واقعي يراه الناس ويلمسونه ويذوقونه ويشمونه فينقدح في داخلهم أنّ خالقه هو إله واحد لا شريك له -سبحانه وتعالى.

النوع الثاني: الأدلة النفسية أو الداخلية

وهي التي تعتمد في انتزاع الدليل على الوحدانية، تعتمد على داخل الإنسان لا خارج الإنسان، ومن أعماق شعوره الداخلي ووجدانه الباطني، لا من مدركات حواسه المعروفة، فالدليل الأول قرر الدليل من حيث الحواس، هنا سينتزع الدليل من داخل الإنسان لا من خارجه، وهذا الدليل ظاهر الأهمية للإنسان، وفي قضية الإيمان بالذات، حتى يحاط به من خارجه ومن داخله جميعًا، فتمتلئ نفسه يقينًا، لا يتسرب إليه ريب ولا قلق، وكم من إنسان امتلأ عقله بالمعارف والأرقام وفنون الإحصاء، وامتلأت حواسه بعجائب هذا الكون، ولكنه يمضي متبلد الإحساس بسبب أنه تعطل وجدانه الداخلي كما قال تعالى: "فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"الحج:46.

ومن هنا: اهتم القرآن العظيم ببيان هذا الدليل النفسي، وساق الآيات تذكيرًا للناس بهذا الجانب الفذ، الذي أهملوه وعطلوه وطمروه تحت ركام من الشبهات، والشهوات التي رانت على قلوبهم، فأظلمتها وأماتتها، يخبرنا الله تعالى أن المشركين الذين يعطلون التوحيد، ويشركون مع الله آلهة أخرى في كل شئون حياتهم، ويجادلون غاية الجدل دفاعًا وحمية عن أوثانهم، يخبرنا الله تعالى أن هؤلاء يحملون في أعماق نفوسهم دليل الوحدانية، ويمضون صمًّا وعميانًا عنه في الرخاء، حتى إذا مستهم شدة جائحة انتفض الدليل في صدورهم حيًا نابضًا حين لا تغني الأصنام أو الأوهام عن أصحابها شيئًا هم في أشد الحاجة إليه حينئذ، وفي ذلك يقول تعالى: "وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ" الإسراء:67.

نتخيل إنسانًا ركب سفينة في البحر، وهاجت الأمواج، ورأينا الأعاصير التي تأتي بأمواج كالجبال، ثم ينظر يمينًا وشمالًا فلا يجد إلا أن يتجه قلبه إلى الله -سبحانه وتعالى- وتتساقط كل المعبودات من دون الله، يسألهم القرآن سؤال تقرير عن حقيقة يعلمونها وإن كابروا فيها، ثم يقررها لهم زيادة في التقرير والتأكيد فيقول: "قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ *بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ" (الأنعام:40-41) وينتزع لنا القرآن من حياتنا صورًا واقعية حية تعتمد على هذا المعنى، الذي تتجه فيه النفوس إلى مالك القوى والقدر اتجاه شعور وفطرة،

واتجاه خضوع ودعاء، وتنسى ما عداه -سبحانه وتعالى- حين تكتنفها الأخطار الماحقة، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ"يونس:22.

فهذا الدليل يصور لنا حالة الإنسان حينما يركب السفينة والبحر مطمئن هادئ، فينظر إلى زرقة الأمواج وإلى زرقة السماء فوقه، وإلى النسيم الذي يمر عليه، ويكون فرحًا مسرورًا، ثم للأسف الشديد حينئذ تمتد نفسه إلى أن يعصى الله في هذا، أن يرتكب المنكرات في هذا البحر ثم فجأة يتغير الجو، وتأتي جبال من الأمواج، ويقع الإنسان في أزمة شديدة لا مخرج له منها إلا الله -سبحانه وتعالى- أما الذي يعتقد في تأثير الأولياء أو الأنبياء أو الأصنام أو في عيسى بن مريم أو في غير ذلك فحينئذ تتساقط عند الخطر الماحق دعواه في هذا، ويتجه شعوره بفطرته إلى الله -سبحانه وتعالى- وحده، " وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ"(الإسراء: 67)-سبحانه وتعالى- وهذا دليل على أن الله هو الحق المبين، هذا الدليل انتزع من داخل الإنسان لا من خارجه، فمن خارجه يمكن أن يرى الشمس والقمر والنجوم والزهور والطيور والأسماك والبحار وما إلى ذلك، لكن هذا الدليل ما انتزع إلا من داخل الإنسان أثناء الشدة الماحقة، فعلم أن الحق لله وضل عنه ما كان يدعوه من آلهة وما إلى ذلك.

النوع الثالث: الأدلة العقلية

وهي الأدلة التي تعتمد على عمليات نظرية فكرية، كترتيب المقدمات، واستخراج نتائجها حسب ضوابط وقوانين، بعد بداهة الحس، ومشاعر النفس، وإن كان الإدراك في الجميع راجعًا إلى العقل.

والأدلة العقلية أوسع مدى من أشكال المنطق اليوناني وضروبه المنتجة لذلك لم يتقيد القرآن العظيم بهذا النمط الفكري، وإنما جاء على نمط خاص في الاستدلال العقلي هو ضرب من إعجازه الذي تفرد به.

وقد استخرج العلماء منه أنواعًا كثيرة، منها: أولاً الدليل البدهي، وهو الذي يقوم على استخدام الحقائق المشهورة والبدهيات المستقرة في ابتناء الدليل عليها؛ فيذعن الخصم للدليل إذعانًا تامًّا إن كان منصفًا، وأما إن كان مكابرًا فلا شيء ينفع معه؛ لأن الله تعالى يقول: "وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً"الكهف:54.

ومن ذلك قوله تعالى في هذا الدليل البدهي: "بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ"(الأنعام:101) هذا استدلال على وحدانية الله: أنه ليس له ولد، ولا يوجد له صاحبة، وليس له شركاء من دونه -سبحانه وتعالى- فيقول الله: هو بديع السماوات، هو الخالق المتفرد الذي أبدع الوجود، كيف يكون لهذا الرب الواحد الأحد، كيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة؟ فحيث تقرر أن الولد لا يكون من غير أم فقد بنى القرآن على هذه الحقيقة المسلّمة دليل بطلان ما نسبوه إليه من الولد؛ لأنه ليس له زوجة، أي: صاحبة.

والدليل سهل واضح يشبه الدليل الحسي في كونه يدل على المطلوب مباشرة، ولا يحتاج إلى مقدمات تنظم الدليل على وجه مخصوص، ولابد من دليل على النظري منها وغير ذلك من التعقيدات التي تصرف الذهن عن المطلوب الأصلي بكثرة الوسائط والاشتغال بالمقدمات والاستدلال عليها ثم على نتائجها أحيانًا كما بينا منذ قليل، فالقضية إذن: أن الدليل البدهي يقوم على البساطة التامة كل واحد ممكن يخاطب بهذا الدليل لا يحتاج أن يكون متعلمًا تعليمًا عاليًا أو متوسطًا أو ما إلى ذلك، إنما هو دليل يعتمد على بداهة العقل؛ فيكون القبول له من الجميع شائعًا ذائعًا، وبذلك يخاطب القرآن كل الطبقات في وقت واحد، ويؤدي إلى إقامة الحجة على الناس جميعًا.

ننتقل إلى دليل آخر عجيب، اسمه: دليل التمانع، وهو مأخوذ من قوله تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا"(الأنبياء:22) وتقرير هذا الدليل أن يقال: لو كان للعالم صانعان لكان تدبيرهما لا يجري على نظام، ولكان العجز يلحقهما أو يلحق أحدهما، وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته، فحينئذ إما أن تنفذ إرادتهما معًا فيتناقض ذلك، كيف يجتمع الضدان؟ وإما أن لا تنفذ إرادتهما معًا؛ فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه هو، والإله لا يكون عاجزًا فبطل ما أدى إليه، وهو افتراض التعدد وثبت نقيضه وهو الوحدانية: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا"(الأنبياء:22) هذا دليل من أعجب ما أورده القرآن، الكون الآن يمشي في نظام وفي روعة وفي ثبات، الشمس تخرج بالثانية كما يعلمها العلماء وراقبوها على مر السنين، وتغرب في ميعادها تمامًا، وهي في غاية الانضباط، والقمر كذلك: "لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ"(يس:40) والكون يمشي في غاية الانضباط، فلو كان هناك إلهان في الكون لحصل فيه اضطراب، واحد يريد أن تخرج الشمس الآن، والثاني يقول: نؤخرها قليلًا أو يأتي القمر الآن يقول: لا يبكر اليوم فكان يحصل اضطراب، وحينئذ يضطرب أمر الكون، بينما نحن نرى الكون من مئات الآلاف من السنين وهو منتظم غاية الانتظام، والأمور تمشي فيه على انضباط تام، فدل على أن هناك إلها واحدا يصرف الأمور ويصدع الكون لأمره وحده لا شريك له.







رائج



مختارات