عصفوران على حافة الزمان


الكاتب: ميس عباس النعيمي -

عصفوران على حافة الزمان

عصفوران على حافة الزمان

ميس عباس النعيمي

ذات صباحٍ متعبٍ، باردٍ و شاحب، ينحب اوجاعه بشجن، كشبح مُشَّردٍ مات غدراً بطعنة الحياة. استيقظتُ على صوت دموعه الهاطلة بطرقها نافذة غرفتي بأسى، حينها أبصرتُ بعينين شاحبتين أكاد أشعر بانتفاخهما كيف لا و كمية الدموع التي ذرفتها ليلة البارحة كانت كفيلة بأن تقلع عينّي من مكانهما. تأملت ما يحيط بي باستغراب و تساؤل :"ما الذي حدث ؟لما كل شيء يبدو ضخماً وعملاقاً على غير العادة ؟" مددت يدي لأفرك عيناي عله يكوم حلماً، إلا إني هلعتُ أكثر حين أدركت إن يداي قد غزاهما الريش. فنظرت بخوف الى نفسى لأقطع الشك الذي اعتراني لكن الشك قطعني بنقيضه اليقين ليتضح لي إني قد تحولت بالكامل الى عصفورة صغيرة. ولكن ما الذي جرى؟ حاولت الصراخ لكن عبثاً فصرخاتي خرجت على هيئة زقزقة متقطعة، متألمة، مجروحة، وحيدة، غريبة ومجهولة. حينها مر أمامي شريط ذكرى ليلة البارحة والشجار الذي دار بيني وبين عائلتي والذي بسببه فقدت شغفي بالحياة، وقتها وددتُ لو أتحول لعصفورة صغيرة وأهرب من واقعي ومجتمعي وعالمي وأعيش في عالم آخر بعيداً عن كل هذه الترهات و المشاكل التي تكون عادة كالعاصفة تمر بنا و تقلع جذور صبرنا و تتطاير أحلامنا كأوراق صفر يابسة لا أهمية لها في الوجود. وما زاد ذعري هو سماعي لصوت أُمي و هي قادمة نحو غرفتي، فهرعت محاولتاً التحليق لكني فشلتُ لأني لا أعرف كيف استخدم جناحيّ. فسقطتُ بجانب السرير وحاولت الاختباء لأن جل همي وقتها أن لا تراني أُمي على هيئتي هذه وإلا ستسجنني في قفص صغير و أعود كما كنت كسابق عهدي.

ذعرت أُمي حين لم تجدني ظنًا منها إني قد هربت. ففتحت شباك غرفتي لتتأكد إذا ما كنتُ قد استخدمتُ حبلاً للهرب. انتهزتُ الفرصة التي أهداها القدر لي وحاولت الهرب وبمشقة من شباك النجاة الوحيد ثم حلقتُ و تركتُ ورائي عالمي وأهلي وكل ما يمت لي بصلة وهربتُ باحثتاً عن هويتي وكينونتي التي فقدتها وأنا على هيئة إنسان. حين ارتفعتُ قليلاً أجهدني الأمر وسقطتُ على جذع شجرة تمسكتْ به بصعوبة بالغة. فأوجست ضعفي وقلة حيلتي وغربتي، فسالت دموعي وامتزجتْ مع دموع ذلك الصباح الحزين فبدأت أنحب حضي العاثر و إلى ما آلت إليه حياتي. استمر بي الحال هكذا لا أعرف الى أين اذهب؟ او ماذا افعل؟ فقد كانت روحي مكبلة ومحتجزة أمام منزلي لم أستطع الهرب بعيداً فقد كان قلق ورعب عائلتي لفقدي هو ما يمنعني. لكن لم يكن بيدي حيلة سوى قطع ذلك الرابط الذي يربطني بهم و التحليق بعيدا عنهم. عشتُ اياماً شاقة جداً حطمتْ ظني بأن حياة الطيور سهلة لامتلاكهم الحرية المطلقة التي كنت أفقدها وانا إنسان.

لاح وقت الغروب وكنتُ اتأمله بمفردي وبمشاعر حزينة ولكن قطع تأملي زقزقة عصفور جميل وقف الى جواري وقال :"الجميع يحن لرؤية لحظة الغروب الساحرة التي تأسر أحاسيسنا و ترسي بأرواحنا لضفاف عالم آخر عالم لا يوجد به غير أنفسنا وعبق مشاعرنا. لكننا لم نفكر يوما ونتأمل هذه اللحظة المميزة من وجهة نظر اخرى، لم يدر في خلدنا يوماً لماذا يمسي لون السماء أحمراً بهيّاً عند الغروب؟ تفاجئت وقلت بتساؤل :"ولما يا ترى؟" أجابني: "و ذلك لأنه وفي كل مساء تحدث ملحمة غريبة، يظفر بها الليل بعد أن يرسل اولى خيوط شفقه على نهايات النهار المتهالكة ليجثو عليه فاتكاً إياه بسيف جنديه الغروب لترى السماء تتلون بدم النهار الأحمر الجريح الذي وأد جثمانه في دياجير الليل الحالكة مخبئاً آثار جريمته خلف تلألؤ نجومه مستمدتاً ضيائها من نور القمر بسرقتهِ لضوء النهار وبهجته ليخدعونا بسحر ضيائهم المزيف الذي اختلسوه عنوة منه. و ما أن يحل الصباح و تلوح اولى قطرات دم النهار بعد ان ينجلي حجاب الليل الساتر لجريمته يرتدي الغروب قناع الفجر موهناً إيانا بتورد خديّ الفجر خجلاً من تغريد العصافير لجمال إطلالته الشكيمة. وهكذا يعيد كرته يومياً ونحن غير مدركين لما يحدث من ملحمة خسر فيها النهار روح ضيائه في سبيل المشاعر الجميلة التي تتجلى في خلجاتنا كل عشية ليثبت لنا إنه من يضحي بأسمى ما لديه يظفر بأفضل النهايات وأعمقها، فتضحيته هذه تعلمنا درساً إنه حتى وإن عرفنا مصير النهايات و إن كانت موجعة يجب أن نبقى على عهدنا ووعدنا وأن نضحى لأجل الاخرين ولو بأرواحنا. فحمرة النهار خير دليل على صدقه، وعودته إلينا بوليد ثاني في يوم جديد أكبر دليل على وفائه بالعهد. لذا تجدينا كل يوم نصارع لأجل حريتنا التي يحسدنا البشر عليها و التي منّ الله بها علينا فقط لنوفي بالعهود التي قطعناها لأنفسنا و لأحبابنا رغم شنيع النهايات التي ندركها. استغربت كلامه و قلت: "ولما تفعلون ذلك؟ قال: "لكل منا نقيض يوازيه في الحياة و يحاول أن يستولي على ما لديه لذا يجب أن نصارع للحفاظ على ما لدينا لنحقق ما نطمح له." ثم اكمل: "لذا يجب أن نتخلى عن الأشياء الثانوية في الحياة و نركز على ما منحنا اياه الله سبحانه وتعالى ونحافظ عليه. ثم بالصراع و العمل الدؤوب والمثابرة نستطيع أن نحصل على مكملات الحياة و زينتها." قلت:" وما هي تلك المكملات؟" أجابني: "بالرضا بما قسمه الله لنا والصبر على ما يصيبنا نستطيع أن نصل إلى الكمال و الظفر بالمكملات ألا و هن الحب،المال،السعادة،تحقيق الأحلام وغيرها وكلها أشياء ثانوية تضاف إلى ما لدينا من أشياء أساسية مُنحت بكل حب من الله. فلا نسمح لها بأن تثبط عزيمتنا وتنسينا هويتنا ولما خُلِقنا إذا لم نحصل عليها".

نظرتُ إليه مطولاً وأنا أشعر بالحرج من نفسي، ثم نظرتُ الى ظلام الليل الحالك كحلكة أفكاري وقتها فأنبني ضميري و همست: "ما أغباني اكترثتُ لما هو فاني و نسيت ما هو دائم"، حينها أدركتُ النعم التي وهبني الله اياها ألا وأعظمها كوني إنساناً يحمل عقلاً يؤمن بوجوده. فتمنيتُ لو أعود كما كنت لتسنح لي الفرصة وأحمدهُ على مننه كلها. فأغمضتُ عيناي برضا لأفاجئ حين أفتحهما بوجودي على سريري نائمة بهدوء. فأدركتُ ان كل ما قاسيته كان حلماً و يا له من حلم أعاد لي توازني..







رائج



مختارات