ليلة في تنيناي


الكاتب: جابر اليوسف -

ليلة في تنيناي

محتويات

جابر اليوسف


ليلة في تنيناي

جابر اليوسف

ليلة طيبة جمعتنا بعد فراقٍ ليس بقليل، تبادلنا خلالها الأحاديث وكلمات الود الى ساعات متأخرة من الليل. أشرقتُ الشمسُ لتعلنَ ميلادِ يومٍ جديد. يوم جميل في مدينة (بني وليد) كجمال هذه المدينةِ العريقة.

تجولنا في شوارعها، تبضعنا من اسواقها، مرَّ الوقت سريعا. صلينا الظهر، وبعد ان تناولنا الغداء، أخبرت الأصدقاء بأني قد تأخرت كثيرا، عليّ ان أرجع الى موقع عملي.

فالمسافة بين مدينة (بني وليد) و(ابو الغرب) بعيدة، إذ يستوجب أن اسلك طريق بني وليد – طرابلس – غريان – مزدة، واخيرا ابو الغرب والتي تقع بمحاذاة الطريق العام المؤدي إلى سبها.

قال لي أحد أصدقائي "لا عليك سأرشدك إلى طريق مختصر وتصل بوقت اقل".

اخترتُ الطريق الذي أشار إليه صديقي، استوقفت سيارة لكن سائقها أخبرني انه ذاهبٌ الى رفلة بيد انه أصر أن اصعدَ معه، "اصعد سأوصلك الى تنيناي لا تقلق لن آخذ منك أجرة" قالها مازحا.

- معذرة اخي ما تعني تنيناي؟

- نعم انها مدينة صغيرة ليست ببعيدة عن بني وليد

المهم، وصلت تنيناي، واشار سائق السيارة الى الشارع الذي علي ان اسلكه .. ثم ودعني بعد أن رفض أن يأخذ الأجرة.

وبالقرب من محطة تعبئة الوقود وقفت انتظر سيارة، وفي هذه اللحظات أخذتني هواجس أفكاري إلى الأهل والأولاد فقد فارقتهم منذ سنة ارتسمت أمامي وجوههم التي اخذ منها الحصار نضارتها واسمع صدى أصواتهم وضحكاتهم، كم أنا مشتاق إلى رؤيتهم، تقطعت هذه التأملات بتحية رجل كان قد مرَّ من أمامي، انتظرت وقتا، لكن لا أحد ينوي الذهاب بهذا الطريق.. يبدو انه شبه مهجور...

امتد بصري على امتداد الشارع، والأرض الرملية تفوح منها رائحة النباتات الطبيعية المتناثرة هنا وهناك.

وبدأت تجوب في خاطري لحظات التوديع الممتزج بالدموع..ل ا تبكوا أيها الأحبة... لم هذا البكاء ؟؟.. بكاؤكم يؤلمني ...

صلوّا... وادعوا الله أن أعود إليكم سالما.

وقفت بالقرب مني سيارة فدنوت من سائقها وبعد التحية سألته:

- هل تذهب إلى مزدة أو إلى نسمة؟

- لا.. معتذرا

بعد صلاة العصر، فكرت أن ارجع من حيث أتيت ولكني عدلت عن فكرتي وآثرت أن انتظر فربما تأتي سيارة أو أجد من يرغب أن استأجره..

لكن دون جدوى، بدأت الشمس ترسل خيوطها الصفراء إيذانا بتوديع تنيناي ...

ارض منبسطة جميلة وسماء صافية، بدا الأفق يحمر، دفعني ان أتذكر هذا اللون الدموي حينما يمتزج بماء دجلة الخالد فامتلأ حنينا إليه غربت الشمس.. وأنا مازلت بالقرب من محطة تعبئة الوقود لحظات... اقترب مني رجل اسمر بملامح طيبة كطيبة أرضه.

قال لي: "الله غالب مهناش كرهبا".. (لا نصيب لك اليوم ان تجد سيارة)

"تعال الليلة عندنا في المحطة".

لم يكن لي خيار سوى أن اقبل هذه الدعوة فلا علم لي بوجود الفنادق في تنيناي و التي فسر لي معناها مثقف اخبرني أنها اسم وادي ويظن أنها كلمة امازيغية.

في غرفتهم المتواضعة الغنية بالنفوس الطيبة استقبلني ساكنوها استقبالا رائعا.

وبوجوه تملؤها البشاشة والوقار استقبلوا ضيفهم وهم لا يعلمون من هو؟ ومن يكون؟

ترحيب يعكس صور النبل والضيافة العربية هز مشاعري وعواطفي حتى اغرورقت عيناي.. وهم لا يشعرون...

وبعد صلاة المغرب.

جلسنا نتجاذب الحديث.

الأخ من أين؟؟

من العراق.. (قلتها وفي القلب حنين و شوق إليه.. رغم عذابات السنين احبك يا عراق.. فحبك علمني كيف اعشق ترابك الذي ولدت فيه... شوق إلى مدينتي المتآخية.. شوق إلى حبيبتي بغداد.. شوق إلى مرابع الصبا فبين الكاظمية والاعظمية كانت لي ألف حكاية وحكاية ......... )

والإخوان من وين ؟؟

- من سبها .....

- سامحوني.. ظننت انكم من السودان..

ضحكنا جميعا

جاؤا بالعشاء....

أخذتنا الأحاديث إلى ساعات متأخرة من الليل... أحاديث كثيرة. منها ما تروي قصة شعب أنهكه الحصار... وأخرى تروي قصة بلد أكلته سنين الحروب.

لم يكن الليل طويلا.... فقد مرّ الوقت سريعا .. سويعات قليلة

وبزغ الفجر.. مبشرا بيوم جديد في تنيناي ...

سكون مفعم بعبق أريج الأرض..

عند الصباح...

ومع بشاشة الوجوه وطيب الكلام وحسن الضيافة كان للفطور طعم آخر....

تبادلنا كلمات الود وبدأت لحظة التوديع.

- استودعكم الله.. بارك الله فيكم

ودعتهم.... غير أن شخوصهم وطيبتهم وحسن ضيافتهم بقيت في خاطري لا أنساها أبدا.....







رائج



مختارات