الحروف الأُحادية


الكاتب: بتول المالكي -

الحروف الأُحادية

الوظائف الدلالية لحروف المعاني الأُحادية

سنتناول في هذا المبحث حروف المعاني الأُحادية التي تناولها أبو عليّ الفارسي حصراً، ولا يتطرّق البحث إلى سائر الحروف التي لم يرد لها ذكر في تعليقة أبي عليّ إلا ما يرد ذكرها عرضاً في أثناء البحث.

الباء والتاء والفاء والكاف واللام والنون والواو.

الوظائف الدلالية للحرف الاحادي "الباء"

الباء

استُعملت على ضربين: كونها حرف جرٍّ أصلي، وكونها حرف جرٍّ زائد، ومعناها التوكيد أبداً، وتُزاد في ستة مواضع، ومنها ما أشار إليه الفارسي في تعليقته، وهي كالآتي:

أوّلاً: تُزاد في الفاعل، فقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة يكون الفاعل فيها مجروراً بحرف الباء الزائد، ولاسيَّما بعد الفعل (كفى) الذي يدلُّ على الحسب والكفاية، فالباء تفيد التوكيد، ومن ذلك يتّضح أنّ الحروف لها وظيفة ومعنى؛ لأنّ الحروف الزائدة تعمل في مدخولها لفظاً، ولكن سرعان ما تعود إلى أصلها من ناحية التركيب، فذهب الفارسي إلى أنَّ الباء زائدة في قوله تعالى: [لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]، [الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] سورة النساء/ 166، وسورة الفتح/ 28، فالباء هنا زائدة في الفاعل، وهي تؤدّي وظيفة دلالية أَلا وهي التوكيد، إذ نلمح معناه من سياق الكلام؛ لأنــَّه بيان للشهادة بصحة أنــَّه أنزله بالنظم المعجز الفائق للقدر، ويحتمل أنــَّه أنزله وهو عالمٌ به، رقيبٌ عليه، حافظٌ له من الشياطين برصدٍ من الملائكة ، أي: بما أنزل الله إليك، وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله، وقد علم بشهادة الله له إذ أظهر على يديه المعجزات، وهذا على سبيل التسلية له من تكذيب اليهود، أي: إن كذّبك اليهود وكذّبوا ما جئتَ به الوحي، فلا تبالِ، فإنَّ الله يشهد لك وملائكته فلا تلتفت إلى تكذيبهم، وإن لم يشهد غيره، فدلالة (الباء) هنا معنوية بتأكيد المعنى، إذ لولا أنَّ في الحرف إذا زِيدَ ضرباً من التوكيد لما جازت زيادته البتّة. «فزيدت (الباء) لضرب من التأكيد والتأكيد معنى صحيح».

وهذا يؤكّد أنَّ الوظيفة الدلالية للحرف تأتي من التوكيد الذي هي فيه، وقد قرّر هذا عبدالقاهر الجرجاني إذ قال: «ليس الغَرضُ بنَظْم الكَلِم، أَنْ توالَتْ ألفاظُها في النُّطق بل أَنْ تناسَقَتْ دلالتُها وتلاقتْ مَعانيها، على الوجهِ الذي اقتضاهُ العقلُ. وكيف يُتَصَّور أنْ يُقصَد به إلى توالي الألفاظ في النُّطق بعد أن ثَبَتَ أنّهُ نظْمٌ يعتبرُ فيه حالُ المنظوم بعضهُ معَ بعضٍ».

وأجاز ابن السرّاج وجهاً آخر وهو أنَّ فاعل الفعل (كفى) ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من (كفى)، كأنــَّه قال: كفى الله، أي: الاكتفاء بالله، وعلى هذا تكون الباء غير زائدة، وذهب الرمّانيّ إلى أنَّ (الباء) دخلت على الفاعل للتوكيد، والمعنى: كفى اللهُ، ومنهم من يرى أنَّ الباء دخلت لتأكيد الاتصال؛ لأنَّ الاسم في قوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ) متــّصل بالفعل اتصال الفاعل، قال ابن الشجري؛ «وفعل ذلك إيذاناً بأنَّ الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في عظم المنزلة فضوعِفَ لفظُها لِتَضَاعُف معناها».

فكلّ كلمة ترد دلالتها إلى النظم والأُسلوب، فزيادتها في التركيب له معنى، وذلك على رأي من يرى أنَّ زيادة المعنى تتبع زيادة المبنى، وهو ما أشار إليه السيوطي (911هـ)، بقوله: «إذ كانت الألفاظ أدلّةً على المعاني ثــُمَّ زيد فيها شيء أوجبت القسمة فيه زيادة المعنى له، وكذلك إن انحرف به عن سمته وهديه كان ذلك دليلاً على حدثٍ متجدّدٍ له».

وقد تُزاد في غير فاعل (كفى)، ولكن ليس قياساً، وعند ابن هشام تُزاد شذوذاً للضرورة، فالغالب تزاد في فاعل (كفى) الماضي منه والمضارع غير المتعدّي إلى مفعولين، أمـَّا إذا كان متعدّياً إلى مفعولين فلا تدخل الباء في فاعله.

ويبدو لي أنَّ الباء هنا التي قرّر النحويون أنــَّها تفيد التوكيد إنــَّما هي لزيادة التلاحم والالتصاق العميق بين الفعل وفاعله وهي دلالة عميقة تثبت للزيادة وظيفة مهمّة جدّاً وهي أنَّ الاتصال لا يمكن فكَّ ارتباطه بعد اتصال الفاعل بالباء التي قيل عنها زائدة من حيث الإعراب ولكنها ليست بهذا المعنى من حيث الدلالة التي أفادتها الباء أو غيرها ممَّا عرف عند النحويين بأنــَّه زائد وهو غير زائد من ناحية الدلالة في الجملة مع العلم أنَّ ابن هشام قد قرّر أنَّ من معاني الباء هو الإلصاق من ضمن أربعة عشر معنى جاءت بها الباء المفردة في حين أنَّ سيبويه قد اقتصر في دلالتها على معنى الإلصاق وحده.

ثانياً: تُزاد الباء كثيراً في خبر ليس للتوكيد، ولها ضربان: الأوّل: قياساً في الخبر المنفي، والثاني: سماعاً في الخبر الموجب، وهذا رأي الأخفش ومن تبعه.

فتُزاد في خبر ليس، كقوله تعالى: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] [سورة البقرة/267]، أي: إنْ أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه، فأنتم لا تأخذونه إلا بوَكْس، فكيف تعطونه في الصدقة، وسبب زيادة (الباء) في الخبر المنفي؛ لأنــَّها لا تفيد معنىً خاصّاً وليس لها متعلّق، فليس المقصود بالزيادة هنا حقيقة التصريف، وإنــَّما جيءَ بها توكيداً للكلام، ولم تحدث معنى.

والسؤال الذي يرد في الذهن مفاده هل (ليس) هنا أفادت النفي؟ والجواب يأتي سراعاً بأنَّ (ليس) هنا تفيد الإثبات؛ لأنــَّها انتقضت بـ(إلا) ونفي النفي إثبات، وعلى هذا فإنــَّنا لا نستطيع القول بأنَّ الباء قد دخلت هنا على خبر (ليس) المنفي وإنــَّما النفي هنا لا وجود له؛ لأنــَّه بحسب القاعدة التي ذكرناها بأنَّ نفي النفي إثبات وصحّحتها القاعدة الرياضية بأنَّ السالب في السالب موجب؛ لذا فإنَّ المستخلص منها الدلالة القوية على عدم التعاطي السهل مع المأخوذ ليكون التفريط به عزيزاً بعيد المنال، وذلك لأنَّ النصّ مع الباء تكشف عن أنَّ الجود يكون بأفضل ما موجود، والتوكيد بها يتساوى مع الخطاب الوارد في بداية الآية الكريمة التي تقول: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ] [سورة البقرة/267]، فهو «نداء عام للذين آمنوا في كُلّ وقت وفي كُلّ جيل، يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم، وتشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب... فالنصّ شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان».

والواضح أنَّ زيادة الحروف على ما لا يقتضيه النسق التركيبي هو نمط من الانزياح في منظور الدراسات الأُسلوبية، يحدث عند المتلقّي نوعاً من المفاجأة، فالمتلقّي معتاد على نمط أُسلوبي يتفق مع القوالب المختزنة في الذهن من أنماط التركيب، فإذا ما حدث عدول في نمط منها كانت المفاجأة، وإثارة الانتباه، وأخذ المتلقّي، يتأمّل في هذا اللفظ الجديد ودواعي حضوره في سياق الكلام.

التاء

التاء: حرف من حروف المعاني، وهو أحد حروف القسم الثلاثة، كما أنــَّها من حروف الجرّ، تختصّ بالدخول على لفظ الجلالة، ويحذف معها فعل القسم وجوباً، نحو: قوله تعالى: [وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ] [سورة الأنبياء/57].

وهناك حروف كَثــُر استعمالها للدلالة على القسم يذكرها النحويون مع حروف الجرّ، تصنيفاً لها من ناحية الإعراب من دون أن يطغى ذلك على معناها الوظيفي في كونها من ناحية المعنى دالة على القسم، وما يؤدّيه من توكيد الكلام، وهذه الحروف هي (الواو، الباء، التاء)، والوظيفة الدلالية التي تؤدّيها (التاء) عند الفارسي هي القسم، كما مثــّل لها في قول الشاعر:

تاللهِ يبقى على الأيّامِ ذو حِيَدٍ بُمشْمَخِرٍّ به الظبانُ والآسُ

فسّرَ قوله (تالله) على حذف حرف النفي (لا)، أي: لا يبقى، فلما حذف الحرف وَصَل الفعل، فالتوجيه الوظيفي لدلالة الحرف على القسم والتي انساق إليها الحرف في قول الشاعر، قائمة على أحقية معنى القسم في العمل التركيبي، وهذا كما هو معروف يدلُّ على خضوع المبنى للمعنى ومجيئه تالياً له، والحذف الذي أشار إليه الفارسي في البيت يُعدّ من أكثر الظواهر وضوحاً في العربية، إذ يفوق وضوحه سائر اللغات لما جبلت عليه العربية في خصائصها الأصلية من الميل إلى الإيجاز، أو لكثرة الاستعمال.

ويؤكّد ذلك الجرجاني بقوله: «ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتمُّ ما يكون بياناً إذا لم تُبــِن».

يتّضح من ذلك أنَّ الفارسي وبعض النحويين وافقوا ما ذهب إليه سيبويه، من أنَّ القسم هو الوظيفة الدلالية المقصودة من السياق الكلامي للحرف الذي ورد فيه، فهو يحمل مظهراً دلالياً دلَّ عليه السياق... والتاء تدخل على اسم الله وحده، فتقول: تالله لأركبنّ، وقوله تعالى: [تالله ] أصلها: أحلفُ بالله، فحذف الفعل تخفيفاً في أكثر الأمر، وذهب بعضهم إلى أنَّ التاء الجارّة تدلُّ على القسم مع التعجّب، ولا تستعمل إلا مع اسم الله، نحو قولك: تالله لأفعلنَّ كذا.

وذهب بعض النحويين إلى ما ذهب إليه الفارسي ووافقوه الرأي.

وذهب المفسّرون إلى أنَّ التاء في قوله تعالى: (وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ) تدلُّ على زيادة معنى وهو التعجّب، وكان إبراهيم (عليه السلام) يتعجّب من تسهيل الكيد على يده مع صعوبته وتعذّره لقوّة سلطة نمرود واستكباره، وبعضهم يرى أنَّ التاء في البيت بدلٌ من الواء ودون الباء التي هي أصل حروف القسم، فجرّوا المحلوف بها تعجّباً.

ومنه قوله تعالى: [قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ] [سورة يوسف/ 85]، ومنه قوله تعالى: [ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ] [سورة يوسف/95]، [قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ] [سورة يوسف/73]، [قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ] [سورة يوسف/91].

والمعنى: نُقسِمُ بالله إنــَّك لا تزال تردّد ذكر يوسف وتتأسف عليه وتديم ذكره منذ سنين لا تكفُّ عنه حتى تُشرف على الهلاك أو تهلك.

فوجود التاء في أكثر من آية في سورة يوسف يدلُّ على أنَّ التاء حرف قسم مثل الواو، ولكنّها مختصّة بلفظ الجلالة (الله)؛ لأنَّ القسم باسم الجلالة أقوى القسم، وتدلُّ أيضاً على العظيم.

الفاء

الفاء: حرف من حروف المعاني المهملة، خلافاً لمن زعمَ أنــَّها تجرُّ إذا نابت عن رُبَّ، ومن أنواعها التي جاءت عند الفارسي المؤدّية لوظيفة دلالية معيّنة، والتي تتحدّد بحسب سياقات استعمالها، هي: أوّلاً: الفاء العاطفة: وهي من الحروف التي تشرك ما بعدها فيما قبلها في الحكم والإعراب، «وتدلُّ على تأخّر المعطوف عن المعطوف عليه متّصلاً به»(، كقوله تعالى: [الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى] [سورة الأعلى/2].

والفارسيّ يرى أنَّ «الفصل بين قولك: (لا تأتيني فتحدِّثُني) وبين (ما تأتيني فتحدِّثَني)،أنــَّك إذا نصبت فالكلام جملة واحدة، وإذا رفعت فالكلام جملتان»، أي: أنَّ المعنى الوظيفي الذي تؤدّيه الفاء هنا هو: ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالحديث لا يقع إلا بعد الإتيان، ويرى سيبويه أنَّ النصب في قوله: (ما تأتيني فتحدِّثَني) على وجهين:

أوّلاً: ما تأتيني فكيف تحدِّثَني؟، أي: لو أتيتني لحدّثتني.

ثانياً: فيما تأتيني أبداً إلا لم تحدِّثني، أي: منك إتيانٌ كثيرٌ ولا حديثٌ منك، ونحن في الخيار في الإشراك بين الأوّل والآخر لفظاً وحكماً، فدخل الآخر فيما دخل فيه الأوّل، فتقول: ما تأتيني فتحدِّثني، كأنــَّك قلت: ما تأتيني وما تحدّثني، ومثالُه قولُهُ تعالى: [وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ] [سورة فاطر/36].

فخلاصة ما تقدّم أنَّ نصب الفعل (فتحدِّثَني) يخرج على وجهين:

أوّلاً: يكون المعنى نفي الحديث لانتفاء شرطه وسببه وهو الإتيان، وقد أشار إلى ذلك بقوله: ما تأتيني فكيف تحدثني، لو أتيتني لحدّثتني.

ثانياً: نفي الحديث، أي: ما يكون منك إتيانٌ يعقبه حديث، وإنــَّما كان منك إتيانٌ لا حديث بعده.

وكذلك رفع الفعل (فتحدِّثُني) يُخرَّج على وجهين أيضاً:

أوّلاً: العطف: كأنــَّك قلت: ما تأتيني وما تحدّثني، فهما جملتان منفيتان.

ثانياً: نفي الإتيان، أي: ما تأتينا فأنت تجهل أمري وتحدّثني بما يُحدّث به الجاهل بحالي، ومثاله قوله تعالى: [يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ] [سورة المرسلات/ 35-36].

ولابن السرّاج رأيٌ في ذلك إذ ذكر أنَّ الفاء في قولك: (ما تأتيني فتحدّثني) في تقدير اسم قد عطف على اسم دلَّ عليه (تأتيني)؛ لأنَّ الأفعال تدلُّ على مصادرها، أي: أنَّ الفعل تحدّثني نائب عن المصدر أو دالٌّ عليه، فهو متأثــّرٌ به ومشتقٌّ منه، وعلى هذا يكون تقديره على رأي ابن السرّاج: (ما تأتيني حديثاً)، أي: بحديث، فحديثاً هو الأصل.

2 ــ الفاء الجوابية: وظيفتها الدلالية الربط، أي: تربط بين جملتين، وتلازمها السببية، وقيل الترتيب أيضاً، وتكون جواباً لأمرين:

  • أوّلاً: الشرط بـ(إنْ) وأخواتها.
  • ثانياً: ما فيه معنى الشرط نحو: أمـَّا.

فجواب الشرط بـ(إنَّ) وأخواتها أصله أن يكون فعلاً صالحاً لجعله شرطاً، فإذا جاء على الأصل لا يحتاج إلى فاء، وذلك إذا كان ماضياً متصرّفاً، عارياً من (قد)، وغيرها، أو مضارعاً مجرّداً أو منفياً بـ(لا) أو (لم).

* مواضع دخول الفاء في جواب الشرط عند الفارسي:

قال أبو علي: «دخلت الفاء في جواب الشرط؛ لأنَّ الجزاء على ضربين: أحدهما: جملة من فعل وفاعل، والأُخرى: جملة من مبتدأ وخبر».

فالجملة الاسمية لا ترتبط بالشرط كارتباط الجملة الفعلية، فأدخل الفاء عليها ليتبع الثاني الأوّل.

ويرى سيبويه أنَّ الجزاء لا يكون إلا بالفعل أو بالفاء، فالفعل كقولك: إن تأتني آتِك، والفاء كقولك: إن تأتني فأنا صاحبُك.

فـ(آتِك) انجزمت بـ(إنْ تأتني)، كما تنجزم إذا كانت جواباً للأمر حين تقول: ائتني آتك، وأمـَّا قوله: (فأنا صاحبُك) فلا يجوز الجواب في هذا الموضع بالواو ولا بثمَّ.

أمـَّا الأخفش فقد سمّى الفاء الجوابية (فاء الابتداء) تمييزاً لها من العاطفة، أي: أنَّ ما بعدها يكون دائماً مبتدأ، واستدلَّ على ذلك بقولِهِ تعالى: [لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] [سورة المائدة/95]، أي: من عادَ منكم لقتلِهِ وهو محرّمٌ، بعد تحريمه بالمعنى الذي كان بقتله في حال كفره، وقبل تحريمه عليه، من استحلاله قتلَهُ، فينتقم اللهُ منه.

فالفاء في الآية الكريمة أفادت الابتداء لا العطف؛ لأنــَّها لو كانت للعطف لم يجز السكوت حتى تجيء لما بعد إن بجواب.

وتابع المبرِّد سيبويه وذهب إلى ما ذهب إليه، إذ ذكر أنَّ المجازاة لا تكون إلا بفعل؛ لأنَّ الجزاء يقع أمـَّا بالفعل أو بالفاء، فقولك: (إن تأتِني فأنا صاحبُك)، وقعت المجازاة هنا بالفاء، لأنَّ معنى الفعل قائمٌ فيها، وعلى هذا فالوظيفة الدلالية التي أداها حرف الفاء هي المجازاة، وهي الفائدة المتحصّلة منه في البناء التركيبي للجملة.

وقد زعم ابن جني أنَّ الفاء تدخل في جواب الشرط وذلك توصلاً للمجازاة بالجملة المركّبة من المبتدأ والخبر، أو الكلام الذي يجوز أن يُبتدأ به، أي: أنَّ الشرط هو فعل، والجواب يكون على نوعين: أوّلاً: فعلاً، ويكون على نوعين أيضاً:

  1. فعلاً مضارعاً كفعل الشرط، وبهذا لا تدخله الفاء.
  2. فعلاً طلبياً يقع أوّل الجملة ولا يرتبط بما قبله.

ثانياً: اسماً، والأسماء لا تعادل الأفعال، فأدخلوا الفاء دليلاً على أنَّ ما بعدها يكون سبباً لما قبلها، وفي هذه الحالة لا معنى للعطف هنا، وعلى هذا التأسيس فإنَّ للفاء هنا دلالة سببية.

أمـَّا الجرجاني فذكر أنَّ الفاء إذا دخلت في جواب الشرط فإنــَّها تؤدّي وظيفة الإتباع، أي: إتباع الشيء الشيء في ابتداء الكلام.

وممَّا تقدّم يتّضح أنَّ الأخفش جعل الجملة التي دخلتها الفاء جملة ابتدائية، أمـَّا الفارسي والجرجاني فذكروا أنَّ الجملة التي دخلت عليها الفاء لا يمكن جزمها سواء كانت جملة اسمية أم فعلية. وقد خالفهم في ذلك ابن الحاجب، فذكر حين وقوع الفعل الماضي في الجزاء وكان معناه الاستقبال لا يجوز دخول الفاء عليه، نحو: قولك: إن زرتني أكرمتُكَ، أمـَّا الفعل المضارع فإذا وقع في الجزاء، وكان مثبتاً أو منفياً، يجوز فيه دخول الفاء وحذفها، ومن المنفي ما يمتنع معه الفاء ومنه ما يجب، كقوله تعالى: [وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] [سورة البقرة/282]، أي: فتصيِّر إحداهما الأُخرى ذكراً باجتماعهما، بمعنى: أنَّ شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها، جازت كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدَّين؛ لأنَّ شهادة كُلّ واحدة منهما منفردةً غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذٍِ بمنزلة شهادة واحدة من الذكور، وتأسيساً على ما تقدّم فإنَّ دخول الفاء تعطي دلالة شرعية فقهية.

فخلاصة آراء النحويين في دخول الفاء في جواب الشرط أنَّ سيبويه والمبرِّد والفارسي وابن جني والجرجاني لا يجعلون الجملة التي دخلت عليها الفاء هي السبب في دخول الفاء، أمـَّا ابن الحاجب فقد أضافَ على كلامهم شيئاً جديداً وهو جعل سبب دخول الفاء في الجواب هو أداة الشرط وذلك عن إفادتها للمستقبل الزمني.

أمـَّا الرضي فذكر أنــَّه: إذا صلح وقوع الجزاء شرطاً فلا يحتاج إلى رابط يربط بينه وبين الشرط، أمـَّا إذا لم يصلح فلابُدَّ من وجود رابط بينهما وأَولى الروابط به هو حرف الفاء وذلك لمناسبتها الجزاء لفظاً ومعنى؛ لأنَّ المعطوف بالفاء متعقّب للمعطوف عليه بلا مهلة، وكذلك الجزاء متعقّب للشرط أيضاً.

* حذف الفاء من جواب الشرط

يرى أكثر النحويين أنَّ الفاء لا تُحذف من الجواب إلا في ضرورة أو ندور: فبيّن أبو علي أنَّ قولك: (إن زيدٌ يأتني يقل ذاك)، أنَّ (زيدٌ) مرفوع بفعل مضمر قبله مجزوم، يفسره ما بعده، والتقدير: (إن يأتني زيدٌ يقلْ ذاكَ) فلا يجوز أن يرتفع زيدٌ بالابتداء؛ لأنــَّه لو ارتفع لكانت الفاء مقدّرة قبله، وإذا قُدّرت بطل جزم الفعل الذي بعده.

* حذفها للضرورة الشعرية:

من المعلوم أنَّ الفاء تربط بين جملتي الشرط والجواب أو الجزاء، ولهذا جعلوا الفاء مؤدّية لهذا الغرض، ومن ثــَمَّ منعوا حذفها، وحينما واجهتهم نصوص فصيحة حُذفت فيها الفاء جعلوا ذلك ضرورة، فسيبويه يرى أنــَّه إذا كان الجواب جملة تُحذف الفاء من جواب الشرط للضرورة الشعرية، واحتجّ لذلك بقول الشاعر:

من يعمل الحسناتِ الله يشكرها والشرُّ بالشرِّ عند الله مِثْلانِ

أي: من فعل خيراً شكره الله عزَّ و جلَّ وضاعفه، ومن فعل سوءاً فعل به مثله، فالشاهد فيه أنــَّه حذف الفاء من جواب الشرط، وكان ينبغي له أن يقول: فالله يشكرُها.

وذكر أبو حيّان أنَّ: الفاء هي التي تربط، ولا يجوز حذف الفاء من الجملة الاسمية عند سيبويه إلا في الربط، وأجاز المبرِّد حذفها في الكلام... وأنــَّه زعم في البيت الذي استدلّ به على جواز حذف الفاء، أنَّ الرواية (فالرحمن يشكره)، وإن صدرت بجملة غير اسمية فإن كان صدرها يصلح لدخول أداة الشرط عليه انجزم إن كان مضارعاً ورفعه ضرورة.

وقد فسّر الرضي وجود الفاء وحذفها تفسيراً دلالياً إذ قال: «إن كان الجزاء ممَّا يصلح أن يقع شرطاً فلا حاجة إلى رابط بينه وبين الشرط لأنَّ بينهما مناسبة لفظية من حيث صلاحية وقوعه موقعه، وإن لم يصلح له فلابُدَّ له من رابط بينهما وأَولى الأشياء به الفاء».

* ندور حذف الفاء في القرآن الكريم والحديث الشريف:

أوّلاً: في القرآن الكريم، كقوله تعالى: [أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] [سورة النساء/78]، أي: «فيدرككم الموت».

ثانياً: الحديث الشريف، ما ورد في صحيح البخاري من قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأُبي بن كعب: «فإن جاء صاحبها، وإلا استمتع بها».

قال ابن مالك: «فإنَّ الأصل: فإن جاء صاحبها أَخَذَها، وإن لا يجيء فاستمتع بها».

وقد عضّد السيوطي قول الفارسي ذاكراً أنَّ الفاء تُحذف فيجوز رفع تاليها وجزمه، فتنفرد بأنــَّها إذا حُذفت جاز فيما بعدها الرفع إذا لم يرد قبله شرطٌ مقصودٌ به، كالآتي:

  • الحال، نحو قولك: ليت زيداً يقدم يزورنا، أي: فيزورنا.
  • النعت: نحو قولك: ليت لي مالاً أنفقُ منه، أي: فأنفق.
  • الاستئناف، نحو قوله تعالى: [فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ] [سورة طه/77]، أي: فلا تخاف، لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك.

فخلاصة القول: إنَّ حذف الفاء من جواب الشرط يحمل دلالات متعدّدة يكشف عنها السياق الذي وردت فيه فهو المسوِّغ لترشيح معنىً من معانٍ متعدّدة يدلُّ عليها الحذف، فمن طريقه يدرك المعنى المقصود من الحرف من بين سائر المعاني المتقاربة..

الكاف

الكاف: حرف من حروف المعاني، ويكون على نوعين: عاملاً (كاف الجرّ)، وغير عامل (الخطاب).

فـ(كاف الجرّ) حرف ملازم لعمل الجر، ودليل حرفيّته أنــَّه حرف واحد يقع صدراً وصلةً مع مجروره من غير قبح، نحو قولك: جاء الذي كزيد، أمـَّا الاسم فلا يكون كذلك، بل يكون زائداً.

فالفارسيّ يرى أنَّ الكاف في قوله: (ذلكَ والنجاؤُكَ وأَرَأَيتُكَ زيداً ما فعل) حرف خطاب ولا اسمية فيها، وهو بذلك وافق سيبويه حينما استدلّ على حرفيتها بقول العرب: (أريتكَ فلاناً ما حالُهُ).

وكذلك قوله تعالى: [اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ] [سورة الإسراء/62].

أي: أخبرني عن هذا الذي فضّلته عليَّ، لمَ فضلته عليَّ وأنا خيرٌ منه.

والوظيفة الدلالية التي أدّاها الحرف (الكاف) في قول أبي عليّ زائدة زيدت لمعنى المخاطبة؛ لأنــَّها اتصلت بالفعل، ويؤكّد ذلك قول المبرِّد: «اعلم أنَّ هذه الكاف زائدة زيدت لمعنى المخاطبة، والدليل على ذلك أنــَّك إذا قلت: أرأيتَكَ زيداً فإنــَّما هي أرأيت زيداً؛ لأنَّ الكاف لو كانت اسماً استحال أن تُعدِّي (رأيت) إلى مفعولين: الأوّل والثاني هو الأوّل. وإن أردت رؤية العين لم يتعدّ إلا إلى مفعول واحد، ومع ذلك أنَّ فعل الرجل لا يتعدّى إلى نفسه، فيتّصل ضميره إلا في باب ظننت وعلمت»، ما يدلّ على أنَّ (الكاف) دخلت هنا للإغراء توكيداً للمخاطبة.

وقد عضّد ابن جني رأي الفارسي وسيبويه وذهب مذهبهم في دلالة الحرف (الكاف) بأنــَّها للخطاب ولا اسمية فيها، وقدَّم لذلك دليلاً فذكر أنــَّها لو كانت في ذلك ونحوه من أسماء الإشارة لم تخلُ من أن تكون (مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة)، فلا تكون مرفوعة؛ لأنــَّها ليست من ضمائر الرفع، ولا تكون منصوبة؛ بسبب عدم الناصب لها، ولا تكون مجرورة؛ لأنَّ الجرّ في الكلام يصل بطريقتين: حرف الجرّ وهو غير موجود هنا، وإضافة اسم، وأسماء الإشارة لا تضاف.

وقد تخرج من الحرفية إلى الاسمية في الكلام لا في الضرورة، وحركتها الفتح، ومعناها التشبيه، فإذا قلت: زيدٌ كالأسد، جاء الوجهان.

ومنهم من يرى أنــَّها في محلّ نصب مفعول به للفعل (رأى)، والعكبري وافق ابن جني على ذلك، أمـَّا عباس حسن فقد وضع شرطاً لكاف الخطاب الحرفية، وهو أن تسبق بهمزة استفهام ويجيءُ بعدها اسم منصوب ثــُمَّ جملة استفهامية، ومنهم من يرى أنــَّها اسم (أبداً)، لا حرفاً؛ لأنــَّها بمعنى (مثل)، وما هو بمعنى اسم فهو اسم، والراجح ما ذهب إليه الفارسي وبعض النحويين من أنَّ الوظيفة الدلالية التي أدّاها الحرف هي المخاطبة، إذ تحددت دلالته بالسياق الذي ورد فيه، فلا يفهم معنى اللفظ (الحرف) منعزلاً عنه، إذ لا تُتصوّر وظيفة الحرف من جهة لفظه، بل من جهة هيئته التي يمثّلها في التركيب، فمعناه يتحدّد بالسياق المتواضع عليه حال التركيب مع غيره.

اللام

اللام: «حرف كثير المعاني والأقسام»، وقد عدّد الزجاجي في كتابه اللامات نحواً من أربعين معنى، وحصرها المالقي على تشعب معانيها في قسمين: قسم تكون فيه زائدة، وقسم تكون فيه غير زائدة،

1 ـ «تأكيد مضمون الجملة»، كقوله تعالى: [لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ] [سورة الحشر/13]، أي: أنتم أشدُّ مرهوبية، وذلك دلالة على نفاقهم، فهم يُظهرون لكم علانيةً خوفاً من الله، وأنتم أهيب في صدورهم من الله، أي: أنَّ رهبتهم في السرِّ منكم أشدُّ من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم، فاللام هنا حققت وأكدت مضمون نسبة الخبر إلى المبتدأ.

2 ـ «تخليص المضارع للحال»، كقوله تعالى: [إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] [سورة النحل/124]، أي: أنَّ الحكم في ذلك اليوم لا محالة فنزل منزلة الحاضر المشاهد، فيجازيهم الله جزاء اختلاف أفعالهم في كونهم محلّين تارةً ومحرّمين أُخرى.

فوظيفتها الدلالية عند الفارسي للابتداء أعمّ من كونها للقسم، والدليل، قولك: لعمرُكَ لأفعلنَّ، فهي في هذا الموضع أفادت الابتداء مجرّدةً من معنى القسم؛ لأنَّ القسم لا يُقسم عليه، وإنــَّما تذكر ليحقق به أمرٌ غير القسم.

فالفارسيّ بذلك وافق ما ذهب إليه سيبويه في إفادتها للابتداء ومنع دخولها على الخبر إلا للضرورة الشعرية، كقول الشاعر:

أُمّ الحُليسِ لعجوزٌ شهربهْ ترضى من اللحمِ بعظمِ الرقبهْ

فوافقه على ذلك جمعٌ من النحويين، إلا أبا عبيدة فقد خالفه في مجازه، فأجاز دخولها على الخبر في قول رؤبة (لعجوزٌ) وحمل عليه قوله تعالى: [قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى] [سورة طه/63]، وذلك بإهمال إن المخفّفة والتقدير: أم الحُليس عجوزٌ، هذان ساحران.

ومنهم من يرى أنَّ اللام في بيت رؤبة: أُم الحُليس لعجوزٌ، إنــَّما هي على نية التقديم، والتقدير لأُمّ الحُليس عجوزٌ.

وقد أنكر ذلك الفارسي، كما أنكره تلميذه ابن جني.

2 ـ لام الجحود: وظيفتها توكيد النفي، وتقع بعد (ما كانَ) (لم يكنْ)، سواءٌ أكان مذكوراً، كقوله تعالى: [وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ] [سورة آل عمران/179]، أي: وما كان الله ليؤتي أحداً منكم علم الغيوب، والمعنى: ما كان الله ليعيّن لكم المنافقين حتــّى تعرفوهم، فاللام هنا أدّت وظيفة دلالية أَلا وهي توكيد مضمون النفي، وعملت النصب.

أم مقّدراً، كقول الشاعر:

فما جمعٌ ليغلبَ جمعَ قومي مقاومةً ولا فردٌ لفردِ

أي: فما كان جمعٌ، فجاز هنا حذف كان قبلها.

ويرى أبو عليٍّ الفارسي أنَّ لام الجحود وأنْ لا يجتمعان، كما لم تجتمع (يا) و(الميم) في (اللهم)، والفعل مع إيّاكَ وزيداً؛ لأنَّ اللام بمنزلة كي في إضمار أن بعدها، فقبح ظهور أنْ بعدها؛ لأنــَّها نقيض فعل لا يكون تقديره تقدير اسم، ولا لفظه لفظ اسم وهو السين وسوف.

فاللام في قولك: جئتُكَ لِتَفْعل، يجوز فيها الوجهان، الإظهار والإضمار، أي: إظهار (أن) وإضمارها بعدها، وقد تأتي (اللام) في موضع لا يجوز إظهارها فيه، كقولك: ما كانَ لِيفْعَل، فصارت أن بمنزلة الفعل في قولك: إيَّاك وزيداً.

فـ(أنْ) بعد هذه اللام مضمرة؛ لأنَّ اللام من عوامل الأسماء، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال؛ لذلك جاءت أن مضمرة بعدها، فإذا أضمرت (أن) نصبت بها الفعل، ودخلت عليها اللام؛ لأنَّ (أنْ) والفعل اسم واحد، كما أنــَّها والفعل مصدرٌ، فقولك: جئتُ لأكرمكَ، معناها: جئتُ لأَكرمكَ، كقولك: جئت لزيد، فإن قلت: ما كنتُ لأضربك، معناها: ما كنتُ لهذا الفعل.

فسمّيت لام الجحود بهذا الاسم؛ وذلك لملازمتها النفي والصحيح ينبغي لنا تسميتها (لام النفي)؛ لأنَّ الجحد معناه إنكار ما تعرفه لا مطلق الإنكار.

وذهب الأربلي إلى أنَّ لام الجحود هي التي تدخل على خبر كان الناقصة وما تصرّف منها بشرط وقوعه منفياً بـ(ما) أو (لم)، كقوله تعالى: [وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ] [سورة الأنفال/33]، أي: ما كان الله ليمطر أوليائي بعذاب، وتقييد نفي العذاب بكينونة الرسول فيهم، وذلك إعلامٌ منه بأنــَّه إذا لم يكن فيهم وفارقهم عذّبهم ولكنـّه لم يعذّبهم إكراماً له مع كونهم بصدد من يعذب لتكذيبهم، فانتفاء الإرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب، فإذا كان خبر (كان) مثبتاً أو منفياً بغير (ما، لم) لم تكن للجحود.

3 ـ لام اليمين: الداخلة على جواب الشرط على حدّ قول أبي عليّ: «دخلت من أجل اليمين؛ لأنــَّها هي التي يعْتمِدُ عليها القسمُ»، فالوظيفة الدلالية التي أشار إليها الفارسي في النصّ أفادت اليمين، كقوله تعالى: [أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] [سورة المائدة/73]، أي: إن لم ينتهوا عمّا يفترون ويعتقدون في عيسى من أنــَّه هو الله، أو أنــَّه ثالث ثلاثةٍ، أوعدهم الله بإصابة العذاب الأليم لهم في الدنيا بالسبي والقتل، وفي الآخرة بالخلود في النار، وقدّم الوعيد على الاستدلال بسمات الحدوث إبلاغاً في الزجر، فقوله تعالى: (لَيَمَسَّنَّ) اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط، وكثيراً ما يجيء هذا التركيب في القرآن الكريم، وقد صحبت (إنْ) اللام المؤذنة بالقسم المحذوف.

ويُقال لها الموطئة للقسم التي تدخل على أداة الشرط، نحو لئنْ أحسنَ إليَّ أحدٌ لأكافأنــَّه، فإن كان القسم مذكوراً لم تلزم، فتقول: والله إن أعطيتني لأعطينّكَ، وإن كان القسم محذوفاً لزمت في الغالب، نحو قوله تعالى: [أَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ] [سورة الحشر/12]، أي: والله لا يخرجونَ معهم إن أُخرجوا.

وقد تُحذف مع فعل القسم، نحو قوله تعالى: [اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] [سورة الأعراف/23].

وعرّفها ابن هشام بـ«اللام الداخلة على أداة شرط للإيذان بأنَّ الجواب بعدها مبنيٌّ على قسم لا على شرط»، كقوله تعالى: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ).

ومن هذا المعنى تُسمّى (اللام المؤذِنَة)، وسُمّيت بـ(الموطّئة) أيضاً؛ لأنــَّها وطّأت الجواب للقسم، أي: مهّدته له.

يتّضح لنا ممَّا تقدّم أنَّ الوظيفة الدلالية التي أدّتها اللام محدّدة تحديداً واضحاً في هذه النصوص، فهي تدلُّ دلالة قاطعة على اليمين، فهذا هو لب المعنى وجوهره بصورة لا يتطرّق إليها الشكُّ، معتمداً بذلك على سياق التركيب الذي وردت فيه.

النون

وهي نوعان:النون المشدَّدة، والنون المخفّفة، يختصّان بالدخول على الأفعال، ويدلان على التوكيد, ويخلصان الفعل للمستقبل، وقد جمعهما قوله تعالى: [قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ] [سورة يوسف/32]، أي: وعدته بالسجن، وإن لم يفعل سيكونَ من الأذلاء.

وقد وردت عند الفارسي على النحو الآتي:

يرى أبو عليٍّ أنَّ بعض النحويين شبّهوا الجزاء بالنهي عند دخول النون عليه؛ وذلك لأنَّ الجزاء فعل مجزوم غير واجب، وكذلك النهي فعل مجزوم غير واجب.

فسيبويه يرى أنَّ دخول النون بغير (ما) في الجزاء قليل في الشعر، ولذلك شبّهوه بالنهي حين كان مجزوماً غير واجب، كقول الشاعر:

نَبَتُّم نَبَاتَ الخيزُرَانيّ في الثــَّرى حديثاً متى ما يأتِكَ الخيرُ ينفعا

فـ(ينفعا) مؤكّد بنون التوكيد تشبيها بالنهي حين كان مجزوماً غير واجب، فأُكّد وهو جواب الشرط، وليس من مواضع النون؛ لأنــَّه خبر يجوز فيه الصدق والكذب،وأجاز المبرِّد دخول النون بغير (ما) في الجزاء في الضرورة الشعرية والخبر، كقول الشاعر:

من تثقفنْ منهم فليس بآئِبٍ أبداً، وقتلُ بني قتيبة شافي

أمـَّا الخوارزمي فقد عارض الفارسي بدخول نون التوكيد على النفي، فذكر ومن التشبيه بالنهي دخولها في النفي، فالنفي يشابه النهي، ومن ثــَمَّ يتساوى الكلام المنفي والكلام المنهي في كونه غير موجب قلَّ، والكلام المنهي أُجريَ مجرى الكلام المنفي؛ لأنَّ أقرب شيء إلى المنفي قليل، وأبعد شيءٍ منه الكثير.

وذهب ابن الحاجب إلى أنــَّه إذا دخلت النون في الجزاء بغير (ما) في الشعر يستقيم الكلام، والدليل قول الفارسي: (تشبيهاً للجزاء بالنهي) غير واضح، فالأَولى أن يُقال تشبيهاً له بالجزاء الداخل فيها؛ لأنــَّه مشتمل على معنى النفي.

وكثيراً ما تدخل النون على الشرط المسبوق بـ(ما) الزائدة، ولاسيَّما شرط (إنْ)، نحو قوله تعالى: [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ] [سورة الأنفال/58].

فأكّد الفعل (تَخَافَنَّ) بالنون؛ وذلك لأنَّ (ما) تفيد التوكيد فجيء بالنون المؤكّدة؛ لأنَّ دخولها قريب من الواجب، فلم ترد في القرآن الكريم إلا مؤكّدة.

يتبيّن لنا ممَّا سبق أنــَّه من الممكن للحرف أن يؤدّي وظائف دلالية كثيرة في التراكيب، إلا أنــَّه لا يمكن أن يتعيّن له إلا معنى واحد يؤدّي وظيفة دلالية واحدة في السياق، بحسب استعماله وتوظيفه المعيّن في التركيب، فالحرف يكتسب معناه من السياق الذي يرد فيه

الواو

الواو: حرف عطف، وهي أُمُّ أدوات العطف، وذلك لكثرة استعمالها فيه، وظيفتها في الجملة: تفيد إشراك ما قبلها وما بعدها في الحكم، وفي الحالة الإعرابية، وقد ذكر المرادي للواو خمسة عشر قسماً منها: العاطفة والمعية والاستئناف والقسم والحال وواو رُبَّ وواو الثمانية، ومذهب جمهور النحويين، أنــَّها للجمع المطلق، والتشريك، لأنــَّها لا تخلو أن تعطف مفرداً على مفرد، أو جملة على جملة، فدلالة الواو عند الفارسي تكون للجمع، كما في قوله تعالى: [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] [سورة آل عمران/154].

وقد دلّت الواو على وجود طائفتين مختلفتين: الأولى التي هي أصل الصدق والإيمان، والثانية التي جمعتها معها الواو وهي الطائفة التي لا همَّ لها إلا نفسها.

فدلَّ اختلاف الطائفتين اللتين اختلفتا في الإيمان والصدق إلى مطلق الجمع، وقد ذهب الفارسي في دلالتها أنــَّها بيّنت الحال وصفة صاحب الحال؛ لأنَّ المتكلّم يبيّن ويوضّح هيئة وصفة صاحب الحال.

«فوجّهوه على أنــَّه يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ في هذه الحال، كأنــَّه قال: إذ طائفةٌ في هذه الحال، فإنــَّما جعله وقتاً ولم يرد أن يجعلها واو عطف هي واو الابتداء»، وتدلُّ على معنى الحال ولكنّها غير معرَّاة من معنى الجمع، ألا ترى أنَّ الحال مصاحبة لذي الحال، فقد أفادت الاجتماع.

فدلالتها على الجمع أعمّ من دلالتها على العطف، والدليل أنــَّا لا نجدها تُعرّى من دلالة الجمع، وإنــَّما تُعرّى من دلالة العطف، ففي قوله تعالى: (يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ)، قد أفادت دلالة الاجتماع.

وقيل: الواو للحال، وقيل بمعنى إذْ، وقال العكبري عن هذه الدلالة أنــَّها ليست بشيء.

وذهب الكوفيون إلى أنَّ دلالتها للترتيب كالفاء عند البصريين إذا دلّ ما بعدها على استحالة الجمع.

وذهب البصريون إلى أنــَّها تدلُّ على الجمع المطلق، أي: أنَّ دلالتها تشريكية بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي أُسند إليها، فلا تفيد ترتيباً ولا معيّةً، بل هي صالحة لذلك كُلّه.

ومنهم من يرى أنــَّها تفيد الترتيب مطلقاً، سواء عطفت جملة على جملة أم مفرداً على مفرد.

ممَّا تقدّم يتّضح أنَّ دلالة الواو هي لمطلق الجمع، وقد تدلُّ على المعيّة.

وهو رأي البصريين، أمـَّا الكوفيّون فمذهبهم أنــَّها للترتيب، ورُدَّ بقوله تعالى: [إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ] [سورة المؤمنون: 37]، أي: لا حياة إلاَّ حياتهم، يموت بعض ويولد بعضٌ يذهب قرنٌ ويأتي قرن.

واو القسم

وهي واو تستعمل بكثرة في القرآن الكريم، تدخل على المقسم به فتجرُّه لفظاً ومعنىً، كقوله تعالى: [والفجر] [سورة الفجر: 1]، ولهذا السبب حُمِلت دلالتها عن دلالة حروف الجرّ، وجعلها النحويون بمنزلة الباء، كقولك: بالله لأفعلنَّ، والتاء كقوله تعالى: [وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ] [سورة الأنبياء: 57].

وذهب الفارسيّ إلى أنَّ الباء أصل حروف القسم وليس الواو، فالباء أصل؛ لأنَّ قولنا: والله فيه إضمار للفظ الجلالة، كأنــَّنا قلنا: به لأفعلنَّ، فردّ الضمير إلى أصله، نحو قولك: أعطيتكمُوهُ، لمن قال: أعطيتكم، فأبدل من الباء الواو، ومن الواو التاء، واستعمل الفعل مضمراً، كقولك: بسم الله، «إنــَّما تجيء بهذه الحروف؛ لأنــَّك تضيف حلفك إلى المحلوف به كما تضيف: مررت به، بالباء إلا أنَّ الفعل يجيء مضمراً في هذا الباب والحلف توكيد».

وحُملت دلالة الواو على دلالة الباء لأمرين: الأوّل: مضارعتها إيَّاها لفظاً فمخرجهما من الشفة، أمـَّا الثاني: فمضارعتها إيَّاها معنىً؛ لأنَّ الباء تدلُّ عل الإلصاق، والواو تدلُّ على الاجتماع، فالشيء إذا لاصقَ الشيء اجتمع معه.

ووافق الرُّمّاني ما ذهبَ إليه الفارسي بأصالة الباء دلالةً في القسم وفرعية الواو.

ولمّا كان الواو عوضاً عن الباء فلا يجوز أن يجتمعا في كلمة واحدة، فلا يُقال: بواللهِ لأفعلنَّ؛ لأنــَّه لا يجوز الجمع بين العوض والمعوّض عنه، فالعوض أدّى الدلالة المطلوبة فانتفت الحاجة إلى دلالة المعوّض عنه، ويلحظُ أنَّ الواو كثــُر استعمالها حتــّى غلبتها، ولذلك قدّمها سيبويه في الذكر.

وانفرد ابن عصفور برأيه وخالف سابقيه ذاكراً أنَّ الواو تدخل على كُلّ مضارع ظاهر يحسن الحلف به، والواو أصل في موضعها لا في الدلالة، وليست بدلاً عن الباء في دلالة القسم، ولا يُصرّح بفعل القسم معها، خلافاً لابن كيسان.

وممّا تقدّم يظهر أنَّ أغلب العلماء جعل الباء الأصل، والواو فرعٌ منها، والدليل ما قدّمه ابن جنــّي من أنــَّها توصل القسم للمقسم به، كقولك: أحلف بالله، كما توصل الباء المجرور إلى المجرور به، كقولك: مررتُ بزيدٍ.

فالباء حرف من حروف الجرّ تدخل على المضمر والمظهر، كقولك: بالله لأَقُومَنَّ، وبهِ لأَقعُدَنَّ، أمـَّا الواو فإنــَّها لا تدخل على المضمر، فنقول: واللهِ لأَضرِبَنَّكَ، فإن أضمرنا قلنا: بهِ لأَضرِبَنَّكَ، ولا نقول: وَهُ لأَضرِبَنَّكَ، فذلك دليل على أنَّ الباء هي الأصل والواو فرعٌ منها.

واو رُبَّ

لابُدَّ من تحديد دلالة رُبَّ؛ لأنَّ الواو سُمّيت باسمها فيُقال: واو رُبَّ. فذهب الأزهري إلى أنــَّها إنــَّما تستعمل للدلالة على التقليل، وتدخل على النكرة لتقليل دلالة النكرة، ولهذا تُخطئ العامّة في قولها: رُبَّما رأيتُه كثيراً، وسبب الخطأ في ذلك؛ لأنَّ دلالة رُبَّ للتقليل، وذلك ينافي دلالة (كثيراً).

وذهب الزجّاج إلى أنَّ رُبَّ جاءت في قوله تعالى: [رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ] [سورة الحجر: 2]، للدلالة على جواز أنَّ أهوال يوم القيامة تشغل الكفّار عن التمنّي، فدلَّ ذلك على قلّة التمنّي، فوجه التشابه الدلالي بين واو رُبَّ ورُبَّ هو: تقليل دلالة النكرة.

وذهب ابن هشام إلى أنَّ واو رُبَّ لا تدخل إلا على مُنَكَّر، وإذا عُدنا إلى رأي الفارسي وجدناه يرى أنَّ رُبَّ محذوفة في قول الشاعر:

وجداءَ مَا يُرجَى بــِهَا ذُو قَرَابَةٍ لعطفٍ، وَمَا يُخشَى السمَاةُ رَبــِيبُهَا

فهو يرى أنَّ رُبَّ محذوفة في البيت وعوّضت عنها الواو؛ لأنَّ العرب تستعمل واواً غير واو القسم، تدخل على الاسم فتجرُّهُ، وهذه الواو هي واو رُبَّ، كقولهم: وبلدٍ، يريدون: ورُبَّ بلدٍ.

فلا تقع الواو في أوّل الكلام إلا واو رُبَّ، ولهذا تدخل على النكرة الموصوفة وتحتاج إلى جواب مذكور، إمّا لفظاً، وإمّا حكماً، كقول الشاعر:

وبلدةٍ ليس بها أنيسُ إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ

وذهب الكوفيون إلى أنَّ واو رُبَّ تعمل في النكرة الخفض بنفسها، فواو رُبَّ ليست عاطفة والدليل على ذلك أنَّ حرف العطف لا يجوز الابتداء به، والشاعر هنا يبتدأ قصيدته بالواو على النحو الآتي:

وبَلَدٍ عَامِيَةٍ أعْمَاؤُهُ كَأنَّ لَونَ أَرضِهِ سَمَاؤُهُ

وذهب البصريون إلى أنَّ الخفض ليس بالواو، وإنــَّما برُبَّ المضمرة بعد الواو.

يتّضح لنا ممَّا تقدّم أنَّ الواو لاحظّ لها في الخفض، وأنَّ الخفض إنــَّما هو برُبَّ مضمرةٍ بعد الواو، فرُبَّ محذوفة والواو دلالة عليها وليس عوضاً.







رائج



مختارات