محتويات
استُعملت على ضربين: كونها حرف جرٍّ أصلي، وكونها حرف جرٍّ زائد، ومعناها التوكيد أبداً، وتُزاد في ستة مواضع، ومنها ما أشار إليه الفارسي في تعليقته، وهي كالآتي:
أوّلاً: تُزاد في الفاعل، فقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة يكون الفاعل فيها مجروراً بحرف الباء الزائد، ولاسيَّما بعد الفعل (كفى) الذي يدلُّ على الحسب والكفاية، فالباء تفيد التوكيد، ومن ذلك يتّضح أنّ الحروف لها وظيفة ومعنى؛ لأنّ الحروف الزائدة تعمل في مدخولها لفظاً، ولكن سرعان ما تعود إلى أصلها من ناحية التركيب، فذهب الفارسي إلى أنَّ الباء زائدة في قوله تعالى: [لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]، [الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] سورة النساء/ 166، وسورة الفتح/ 28، فالباء هنا زائدة في الفاعل، وهي تؤدّي وظيفة دلالية أَلا وهي التوكيد، إذ نلمح معناه من سياق الكلام؛ لأنــَّه بيان للشهادة بصحة أنــَّه أنزله بالنظم المعجز الفائق للقدر، ويحتمل أنــَّه أنزله وهو عالمٌ به، رقيبٌ عليه، حافظٌ له من الشياطين برصدٍ من الملائكة ، أي: بما أنزل الله إليك، وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله، وقد علم بشهادة الله له إذ أظهر على يديه المعجزات، وهذا على سبيل التسلية له من تكذيب اليهود، أي: إن كذّبك اليهود وكذّبوا ما جئتَ به الوحي، فلا تبالِ، فإنَّ الله يشهد لك وملائكته فلا تلتفت إلى تكذيبهم، وإن لم يشهد غيره، فدلالة (الباء) هنا معنوية بتأكيد المعنى، إذ لولا أنَّ في الحرف إذا زِيدَ ضرباً من التوكيد لما جازت زيادته البتّة. «فزيدت (الباء) لضرب من التأكيد والتأكيد معنى صحيح».
هذا يؤكّد أنَّ الوظيفة الدلالية للحرف تأتي من التوكيد الذي هي فيه، وقد قرّر هذا عبدالقاهر الجرجاني إذ قال: «ليس الغَرضُ بنَظْم الكَلِم، أَنْ توالَتْ ألفاظُها في النُّطق بل أَنْ تناسَقَتْ دلالتُها وتلاقتْ مَعانيها، على الوجهِ الذي اقتضاهُ العقلُ. وكيف يُتَصَّور أنْ يُقصَد به إلى توالي الألفاظ في النُّطق بعد أن ثَبَتَ أنّهُ نظْمٌ يعتبرُ فيه حالُ المنظوم بعضهُ معَ بعضٍ».
وأجاز ابن السرّاج وجهاً آخر وهو أنَّ فاعل الفعل (كفى) ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من (كفى)، كأنــَّه قال: كفى الله، أي: الاكتفاء بالله، وعلى هذا تكون الباء غير زائدة، وذهب الرمّانيّ إلى أنَّ (الباء) دخلت على الفاعل للتوكيد، والمعنى: كفى اللهُ، ومنهم من يرى أنَّ الباء دخلت لتأكيد الاتصال؛ لأنَّ الاسم في قوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ) متــّصل بالفعل اتصال الفاعل، قال ابن الشجري؛ «وفعل ذلك إيذاناً بأنَّ الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في عظم المنزلة فضوعِفَ لفظُها لِتَضَاعُف معناها».
فكلّ كلمة ترد دلالتها إلى النظم والأُسلوب، فزيادتها في التركيب له معنى، وذلك على رأي من يرى أنَّ زيادة المعنى تتبع زيادة المبنى، وهو ما أشار إليه السيوطي (911هـ)، بقوله: «إذ كانت الألفاظ أدلّةً على المعاني ثــُمَّ زيد فيها شيء أوجبت القسمة فيه زيادة المعنى له، وكذلك إن انحرف به عن سمته وهديه كان ذلك دليلاً على حدثٍ متجدّدٍ له».
وقد تُزاد في غير فاعل (كفى)، ولكن ليس قياساً، وعند ابن هشام تُزاد شذوذاً للضرورة، فالغالب تزاد في فاعل (كفى) الماضي منه والمضارع غير المتعدّي إلى مفعولين، أمـَّا إذا كان متعدّياً إلى مفعولين فلا تدخل الباء في فاعله.
ويبدو أنَّ الباء هنا التي قرّر النحويون أنــَّها تفيد التوكيد إنــَّما هي لزيادة التلاحم والالتصاق العميق بين الفعل وفاعله وهي دلالة عميقة تثبت للزيادة وظيفة مهمّة جدّاً وهي أنَّ الاتصال لا يمكن فكَّ ارتباطه بعد اتصال الفاعل بالباء التي قيل عنها زائدة من حيث الإعراب ولكنها ليست بهذا المعنى من حيث الدلالة التي أفادتها الباء أو غيرها ممَّا عرف عند النحويين بأنــَّه زائد وهو غير زائد من ناحية الدلالة في الجملة مع العلم أنَّ ابن هشام قد قرّر أنَّ من معاني الباء هو الإلصاق من ضمن أربعة عشر معنى جاءت بها الباء المفردة في حين أنَّ سيبويه قد اقتصر في دلالتها على معنى الإلصاق وحده.
ثانياً: تُزاد الباء كثيراً في خبر ليس للتوكيد، ولها ضربان: الأوّل: قياساً في الخبر المنفي، والثاني: سماعاً في الخبر الموجب، وهذا رأي الأخفش ومن تبعه.
فتُزاد في خبر ليس، كقوله تعالى: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] [سورة البقرة/267]، أي: إنْ أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه، فأنتم لا تأخذونه إلا بوَكْس، فكيف تعطونه في الصدقة، وسبب زيادة (الباء) في الخبر المنفي؛ لأنــَّها لا تفيد معنىً خاصّاً وليس لها متعلّق، فليس المقصود بالزيادة هنا حقيقة التصريف، وإنــَّما جيءَ بها توكيداً للكلام، ولم تحدث معنى.
والسؤال الذي يرد في الذهن مفاده هل (ليس) هنا أفادت النفي؟ والجواب يأتي سراعاً بأنَّ (ليس) هنا تفيد الإثبات؛ لأنــَّها انتقضت بـ(إلا) ونفي النفي إثبات، وعلى هذا فإنــَّنا لا نستطيع القول بأنَّ الباء قد دخلت هنا على خبر (ليس) المنفي وإنــَّما النفي هنا لا وجود له؛ لأنــَّه بحسب القاعدة التي ذكرناها بأنَّ نفي النفي إثبات وصحّحتها القاعدة الرياضية بأنَّ السالب في السالب موجب؛ لذا فإنَّ المستخلص منها الدلالة القوية على عدم التعاطي السهل مع المأخوذ ليكون التفريط به عزيزاً بعيد المنال، وذلك لأنَّ النصّ مع الباء تكشف عن أنَّ الجود يكون بأفضل ما موجود، والتوكيد بها يتساوى مع الخطاب الوارد في بداية الآية الكريمة التي تقول: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ] [سورة البقرة/267]، فهو «نداء عام للذين آمنوا في كُلّ وقت وفي كُلّ جيل، يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم، وتشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب... فالنصّ شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان».
والواضح أنَّ زيادة الحروف على ما لا يقتضيه النسق التركيبي هو نمط من الانزياح في منظور الدراسات الأُسلوبية، يحدث عند المتلقّي نوعاً من المفاجأة، فالمتلقّي معتاد على نمط أُسلوبي يتفق مع القوالب المختزنة في الذهن من أنماط التركيب، فإذا ما حدث عدول في نمط منها كانت المفاجأة، وإثارة الانتباه، وأخذ المتلقّي، يتأمّل في هذا اللفظ الجديد ودواعي حضوره في سياق الكلام.