المعاني الدلالية لحرف الفاء


الكاتب: بتول المالكي -

المعاني الدلالية لحرف الفاء

محتويات

جملة ابتدائية


المعاني الدلالية للحرف الاحادي الفاء

الفاء: حرف من حروف المعاني المهملة، خلافاً لمن زعمَ أنــَّها تجرُّ إذا نابت عن رُبَّ، ومن أنواعها التي جاءت عند الفارسي المؤدّية لوظيفة دلالية معيّنة، والتي تتحدّد بحسب سياقات استعمالها، هي: أوّلاً: الفاء العاطفة: وهي من الحروف التي تشرك ما بعدها فيما قبلها في الحكم والإعراب، «وتدلُّ على تأخّر المعطوف عن المعطوف عليه متّصلاً به»(، كقوله تعالى: [الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى] [سورة الأعلى/2].

والفارسيّ يرى أنَّ «الفصل بين قولك: (لا تأتيني فتحدِّثُني) وبين (ما تأتيني فتحدِّثَني)،أنــَّك إذا نصبت فالكلام جملة واحدة، وإذا رفعت فالكلام جملتان»، أي: أنَّ المعنى الوظيفي الذي تؤدّيه الفاء هنا هو: ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالحديث لا يقع إلا بعد الإتيان، ويرى سيبويه أنَّ النصب في قوله: (ما تأتيني فتحدِّثَني) على وجهين:

أوّلاً: ما تأتيني فكيف تحدِّثَني؟، أي: لو أتيتني لحدّثتني.

ثانياً: فيما تأتيني أبداً إلا لم تحدِّثني، أي: منك إتيانٌ كثيرٌ ولا حديثٌ منك، ونحن في الخيار في الإشراك بين الأوّل والآخر لفظاً وحكماً، فدخل الآخر فيما دخل فيه الأوّل، فتقول: ما تأتيني فتحدِّثني، كأنــَّك قلت: ما تأتيني وما تحدّثني، ومثالُه قولُهُ تعالى: [وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ] [سورة فاطر/36].

فخلاصة ما تقدّم أنَّ نصب الفعل (فتحدِّثَني) يخرج على وجهين:

أوّلاً: يكون المعنى نفي الحديث لانتفاء شرطه وسببه وهو الإتيان، وقد أشار إلى ذلك بقوله: ما تأتيني فكيف تحدثني، لو أتيتني لحدّثتني.

ثانياً: نفي الحديث، أي: ما يكون منك إتيانٌ يعقبه حديث، وإنــَّما كان منك إتيانٌ لا حديث بعده.

وكذلك رفع الفعل (فتحدِّثُني) يُخرَّج على وجهين أيضاً:

أوّلاً: العطف: كأنــَّك قلت: ما تأتيني وما تحدّثني، فهما جملتان منفيتان.

ثانياً: نفي الإتيان، أي: ما تأتينا فأنت تجهل أمري وتحدّثني بما يُحدّث به الجاهل بحالي، ومثاله قوله تعالى: [يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ] [سورة المرسلات/ 35-36].

ولابن السرّاج رأيٌ في ذلك إذ ذكر أنَّ الفاء في قولك: (ما تأتيني فتحدّثني) في تقدير اسم قد عطف على اسم دلَّ عليه (تأتيني)؛ لأنَّ الأفعال تدلُّ على مصادرها، أي: أنَّ الفعل تحدّثني نائب عن المصدر أو دالٌّ عليه، فهو متأثــّرٌ به ومشتقٌّ منه، وعلى هذا يكون تقديره على رأي ابن السرّاج: (ما تأتيني حديثاً)، أي: بحديث، فحديثاً هو الأصل.

2 ــ الفاء الجوابية: وظيفتها الدلالية الربط، أي: تربط بين جملتين، وتلازمها السببية، وقيل الترتيب أيضاً، وتكون جواباً لأمرين:

أوّلاً: الشرط بـ(إنْ) وأخواتها.

ثانياً: ما فيه معنى الشرط نحو: أمـَّا.

فجواب الشرط بـ(إنَّ) وأخواتها أصله أن يكون فعلاً صالحاً لجعله شرطاً، فإذا جاء على الأصل لا يحتاج إلى فاء، وذلك إذا كان ماضياً متصرّفاً، عارياً من (قد)، وغيرها، أو مضارعاً مجرّداً أو منفياً بـ(لا) أو (لم).

* مواضع دخول الفاء في جواب الشرط عند الفارسي:

قال أبو علي: «دخلت الفاء في جواب الشرط؛ لأنَّ الجزاء على ضربين: أحدهما: جملة من فعل وفاعل، والأُخرى: جملة من مبتدأ وخبر».

فالجملة الاسمية لا ترتبط بالشرط كارتباط الجملة الفعلية، فأدخل الفاء عليها ليتبع الثاني الأوّل.

ويرى سيبويه أنَّ الجزاء لا يكون إلا بالفعل أو بالفاء، فالفعل كقولك: إن تأتني آتِك، والفاء كقولك: إن تأتني فأنا صاحبُك.

فـ(آتِك) انجزمت بـ(إنْ تأتني)، كما تنجزم إذا كانت جواباً للأمر حين تقول: ائتني آتك، وأمـَّا قوله: (فأنا صاحبُك) فلا يجوز الجواب في هذا الموضع بالواو ولا بثمَّ.

أمـَّا الأخفش فقد سمّى الفاء الجوابية (فاء الابتداء) تمييزاً لها من العاطفة، أي: أنَّ ما بعدها يكون دائماً مبتدأ، واستدلَّ على ذلك بقولِهِ تعالى: [لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] [سورة المائدة/95]، أي: من عادَ منكم لقتلِهِ وهو محرّمٌ، بعد تحريمه بالمعنى الذي كان بقتله في حال كفره، وقبل تحريمه عليه، من استحلاله قتلَهُ، فينتقم اللهُ منه.

فالفاء في الآية الكريمة أفادت الابتداء لا العطف؛ لأنــَّها لو كانت للعطف لم يجز السكوت حتى تجيء لما بعد إن بجواب.

وتابع المبرِّد سيبويه وذهب إلى ما ذهب إليه، إذ ذكر أنَّ المجازاة لا تكون إلا بفعل؛ لأنَّ الجزاء يقع أمـَّا بالفعل أو بالفاء، فقولك: (إن تأتِني فأنا صاحبُك)، وقعت المجازاة هنا بالفاء، لأنَّ معنى الفعل قائمٌ فيها، وعلى هذا فالوظيفة الدلالية التي أداها حرف الفاء هي المجازاة، وهي الفائدة المتحصّلة منه في البناء التركيبي للجملة.

وقد زعم ابن جني أنَّ الفاء تدخل في جواب الشرط وذلك توصلاً للمجازاة بالجملة المركّبة من المبتدأ والخبر، أو الكلام الذي يجوز أن يُبتدأ به، أي: أنَّ الشرط هو فعل، والجواب يكون على نوعين: أوّلاً: فعلاً، ويكون على نوعين أيضاً:

1 ــ فعلاً مضارعاً كفعل الشرط، وبهذا لا تدخله الفاء.

2 ــ فعلاً طلبياً يقع أوّل الجملة ولا يرتبط بما قبله.

ثانياً: اسماً، والأسماء لا تعادل الأفعال، فأدخلوا الفاء دليلاً على أنَّ ما بعدها يكون سبباً لما قبلها، وفي هذه الحالة لا معنى للعطف هنا، وعلى هذا التأسيس فإنَّ للفاء هنا دلالة سببية.

أمـَّا الجرجاني فذكر أنَّ الفاء إذا دخلت في جواب الشرط فإنــَّها تؤدّي وظيفة الإتباع، أي: إتباع الشيء الشيء في ابتداء الكلام.

جملة ابتدائية

وممَّا تقدّم يتّضح أنَّ الأخفش جعل الجملة التي دخلتها الفاء جملة ابتدائية، أمـَّا الفارسي والجرجاني فذكروا أنَّ الجملة التي دخلت عليها الفاء لا يمكن جزمها سواء كانت جملة اسمية أم فعلية. وقد خالفهم في ذلك ابن الحاجب، فذكر حين وقوع الفعل الماضي في الجزاء وكان معناه الاستقبال لا يجوز دخول الفاء عليه، نحو: قولك: إن زرتني أكرمتُكَ، أمـَّا الفعل المضارع فإذا وقع في الجزاء، وكان مثبتاً أو منفياً، يجوز فيه دخول الفاء وحذفها، ومن المنفي ما يمتنع معه الفاء ومنه ما يجب، كقوله تعالى: [وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] [سورة البقرة/282]، أي: فتصيِّر إحداهما الأُخرى ذكراً باجتماعهما، بمعنى: أنَّ شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها، جازت كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدَّين؛ لأنَّ شهادة كُلّ واحدة منهما منفردةً غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذٍِ بمنزلة شهادة واحدة من الذكور، وتأسيساً على ما تقدّم فإنَّ دخول الفاء تعطي دلالة شرعية فقهية.

فخلاصة آراء النحويين في دخول الفاء في جواب الشرط أنَّ سيبويه والمبرِّد والفارسي وابن جني والجرجاني لا يجعلون الجملة التي دخلت عليها الفاء هي السبب في دخول الفاء، أمـَّا ابن الحاجب فقد أضافَ على كلامهم شيئاً جديداً وهو جعل سبب دخول الفاء في الجواب هو أداة الشرط وذلك عن إفادتها للمستقبل الزمني.

أمـَّا الرضي فذكر أنــَّه: إذا صلح وقوع الجزاء شرطاً فلا يحتاج إلى رابط يربط بينه وبين الشرط، أمـَّا إذا لم يصلح فلابُدَّ من وجود رابط بينهما وأَولى الروابط به هو حرف الفاء وذلك لمناسبتها الجزاء لفظاً ومعنى؛ لأنَّ المعطوف بالفاء متعقّب للمعطوف عليه بلا مهلة، وكذلك الجزاء متعقّب للشرط أيضاً.

* حذف الفاء من جواب الشرط

يرى أكثر النحويين أنَّ الفاء لا تُحذف من الجواب إلا في ضرورة أو ندور: فبيّن أبو علي أنَّ قولك: (إن زيدٌ يأتني يقل ذاك)، أنَّ (زيدٌ) مرفوع بفعل مضمر قبله مجزوم، يفسره ما بعده، والتقدير: (إن يأتني زيدٌ يقلْ ذاكَ) فلا يجوز أن يرتفع زيدٌ بالابتداء؛ لأنــَّه لو ارتفع لكانت الفاء مقدّرة قبله، وإذا قُدّرت بطل جزم الفعل الذي بعده.

* حذفها للضرورة الشعرية:

من المعلوم أنَّ الفاء تربط بين جملتي الشرط والجواب أو الجزاء، ولهذا جعلوا الفاء مؤدّية لهذا الغرض، ومن ثــَمَّ منعوا حذفها، وحينما واجهتهم نصوص فصيحة حُذفت فيها الفاء جعلوا ذلك ضرورة، فسيبويه يرى أنــَّه إذا كان الجواب جملة تُحذف الفاء من جواب الشرط للضرورة الشعرية، واحتجّ لذلك بقول الشاعر:

من يعمل الحسناتِ الله يشكرها والشرُّ بالشرِّ عند الله مِثْلانِ

أي: من فعل خيراً شكره الله عزَّ و جلَّ وضاعفه، ومن فعل سوءاً فعل به مثله، فالشاهد فيه أنــَّه حذف الفاء من جواب الشرط، وكان ينبغي له أن يقول: فالله يشكرُها.

وذكر أبو حيّان أنَّ: الفاء هي التي تربط، ولا يجوز حذف الفاء من الجملة الاسمية عند سيبويه إلا في الربط، وأجاز المبرِّد حذفها في الكلام... وأنــَّه زعم في البيت الذي استدلّ به على جواز حذف الفاء، أنَّ الرواية (فالرحمن يشكره)، وإن صدرت بجملة غير اسمية فإن كان صدرها يصلح لدخول أداة الشرط عليه انجزم إن كان مضارعاً ورفعه ضرورة.

وقد فسّر الرضي وجود الفاء وحذفها تفسيراً دلالياً إذ قال: «إن كان الجزاء ممَّا يصلح أن يقع شرطاً فلا حاجة إلى رابط بينه وبين الشرط لأنَّ بينهما مناسبة لفظية من حيث صلاحية وقوعه موقعه، وإن لم يصلح له فلابُدَّ له من رابط بينهما وأَولى الأشياء به الفاء».

* ندور حذف الفاء في القرآن الكريم والحديث الشريف:

أوّلاً: في القرآن الكريم، كقوله تعالى: [أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] [سورة النساء/78]، أي: «فيدرككم الموت».

ثانياً: الحديث الشريف، ما ورد في صحيح البخاري من قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأُبي بن كعب: «فإن جاء صاحبها، وإلا استمتع بها».

قال ابن مالك: «فإنَّ الأصل: فإن جاء صاحبها أَخَذَها، وإن لا يجيء فاستمتع بها».

وقد عضّد السيوطي قول الفارسي ذاكراً أنَّ الفاء تُحذف فيجوز رفع تاليها وجزمه، فتنفرد بأنــَّها إذا حُذفت جاز فيما بعدها الرفع إذا لم يرد قبله شرطٌ مقصودٌ به، كالآتي:

1 ـ الحال، نحو قولك: ليت زيداً يقدم يزورنا، أي: فيزورنا.

2 ـ النعت: نحو قولك: ليت لي مالاً أنفقُ منه، أي: فأنفق.

3 ـ الاستئناف، نحو قوله تعالى: [فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ] [سورة طه/77]، أي: فلا تخاف، لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك.

فخلاصة القول: إنَّ حذف الفاء من جواب الشرط يحمل دلالات متعدّدة يكشف عنها السياق الذي وردت فيه فهو المسوِّغ لترشيح معنىً من معانٍ متعدّدة يدلُّ عليها الحذف، فمن طريقه يدرك المعنى المقصود من الحرف من بين سائر المعاني المتقاربة.







رائج



مختارات