تعتبر النتائج وليدة الأسباب فالتطور والتقدم والارتقاء والتخلف والجهل والانحطاط ما هي إلا نتائجُ أسبابٍ معينة قد تكون معروفة وقد تكون مجهولة. فالمجتمعات والشعوب التي تقدمت وارتقت قد اخذت بأسباب التقدم والرقي والتي تأخرت وتخلفت عن ركب المجتمعات المتقدمة قد اخذت بأسباب التخلف والانحطاط.
هذه بديهية لا يختلف عليها اثنان، وحين تبحث عن سر ذلك التقدم والتطور والرقي لتلك المجتمعات تجد ان الناس فيها ومهما تعددت ولاءاتهم الاجتماعية والدينية والسياسية إلا انهم أعطوا أولوية وأسبقية للولاء لوطنهم فقد امنوا بهذا الولاء وتربوا عليه وربّوا أبنائهم على الحب والولاء للوطن أولا ثم تأتي بعدها الولاءات الأخرى . فالولاء للأرض أولا.
هنا ترتبت على هذا الولاء أمور عديدة على الفرد والمجتمع من تنفيذها منها حمايته من الأعداء فراح يبني ترسانته العسكرية وهذا امر يتطلب العمل الجاد في الصناعة والزراعة وفي كافة المجالات التي يحتاجها الانسان بينما راحت المنظمات والمؤسسات والدوائر المدنية الرسمية وغير الرسمية بالشروع في تربية وبناء الانسان كوحدة او لبنة اساسية في بناء مجتمع موحد متوافق قوي يسوده العدل والمساواة والواجبات والحقوق لينتهي الحال بوضع قوانين تضبط الحياة اليومية للناس. كل ذلك الجد والاجتهاد جاء نتيجة مبدأ الولاء للأرض أولا.
اما المجتمعات التي تتصف بالتخلف والانحطاط والتأخر فان سر كل ذلك التردي وعدم الارتقاء والتطور مردّه الى ان الناس فيها تتصف بتعدد الولاءات فمنهم من يُقدّم ويفضل الولاء لحزبه او حركته ومنهم من يُقدّم ويفضل الولاء لقبليته او عشيرته ومنهم من يعطي أولوية الولاء لمذهبه او طائفته ومنهم لقوميته وهناك من يقدم الولاء والطاعة لدول عظمى يرى انها تحقق أهدافهم، كل هذه الولاءات المختلفة تتقدم على الولاء للوطن.
فالولاء للوطن لم يعد يحتل الأولوية من بين الولاءات انفة الذكر اصبح المجتمع يتميز بولاءات مختلفة ومتقاطعة أحيانا مما اثر سلبا على بناء مجتمع متوافق اجتماعيا وسياسيا.
حيث أدت الى تشتت وتفرقة المجتمع الى جماعات يسودها التناحر والتباغض والعداوات وربما ينتهي بهم الحال الى الاقتتال فيما بينهم والجماعة او الجماعات الأكبر قوة هي التي تسيطر على الجماعات الأخرى وتسعى للسيطرة على البلاد ووضع القوانين التي تتوافق مع مصالحها وأهدافها. فتسود حالة من الفوضى وعدم الاستقرار فلا قوانين تضبط الناس ولا قوة تحمي البلاد من الأعداء والتدخلات الأجنبية فيصبح الوطن ساحة مفتوحة لمن هبّ ودبّ. وتتعطل الحياة الطبيعية للناس ولم يعد بمقدورها النهوض فتعيش على هامش الحياة بائسة تعيسة.
هذا هو السر الحقيقي وراء تأخر وانحطاط هذه الشعوب. ولا يعني ان الانسان في هذه المجتمعات لا يمتلك ولاءً لوطنه. بل بالعكس انه يمتلك هذا الولاء لكن لم تتبلور عنده فكرة ان الولاء للوطن أولا، ثم تأتي الولاءات الأخرى. لم يؤمن بان هذه الأولوية هي التي تقوي وتؤازر ولاءاته الأخرى وفق سياقات مجتمع قوي منضبط بقوانين تسير حياته اليومية. لم تتكون لديه فكرة ان ولاءاته الأخرى ستنهار وتنتهي في حال انهيار وسقوط وطنه.
إن أي مجتمع تسوده طوائف وأحزاب وقوميات ومذاهب وحركات مرتبطة بجهات خارجية لا يمكن ان يرتقي ويتقدم ويبني حياة كريمة ذي سيادة واستقلال دون تبعية او احتلال او وصاية ما لم يعط أولوية واسبقية في الولاء للوطن وحب الأرض.